سعود قبيلات ▣
«الصدق والصراحة، قد لا تكسبك الكثير من
الناس، لكن ستوفّر لك أفضلهم رغم قلّتهم».
«الحقيقة أنَّنا لا نعرف سرّ النجاح بالتمام، ولكنّنا
نعرف أنَّ الفشل هو محاولة إرضاء الجميع».
«كان شحّ الأحلام يؤثّر بي أكثر مِنْ شحّ النقود».
«استحضار الماضي لا يمكنه إنقاذ المستقبل».
«لقد تعلّمت منكم الكثير أيّها البشر.. تعلّمت أنّ
الجميع يريد العيش في قمّة الجبل غير مدركين أنّ سرّ السعادة يكمن في تسلّقه».
«إذا كان لديك عينان! فلماذا ترى الناس بأذنيك؟! عامل
الناس بما ترى منهم وليس بما تسمع عنهم».
«لا ينتسب الانسان إلى أرضٍ لا موتى له تحت ترابها».
«إنَّ أحداً لا يستطيع تعليم الآخرين الحياة».
«لا يكفّ المرء عن الحلم حين يصبح عجوزاً، بل يصبح عجوزاً
حين يكفّ عن الحلم».
«كانت أمنياتي ألاّ تجبرني أمّي على الإفطار، وأن تسمح
لي باللعب عصراً في الحديقة، ويشتري لي أبي درّاجة وترسم المعلّمة على يدي نجمة..
كيف تعقّد الأمر؟»
(غابرييل غارسيا ماركيز)
مرَّتْ، قبل أيّام، ذكرى رحيل الكاتب الكولمبيّ التقدّميّ الحرّ
غابرييل غارسيا ماركيز، الفائز بجائزة نوبل في العام 1982 وصاحب «مئة عام من
العزلة» و«خريف البطريرك» و«الجنرال في متاهته» و«العقيد لا يجد مَنْ يكاتبه» و«الحبّ
في زمن الكوليرا» و«وقائع موت معلن».. الخ. وقد وُلِدَ في تاريخ 6 آذار/مارس 1927،
وتوفِّي في تاريخ 17 نيسان/أبريل 2014.
وأتذكَّر، هنا، أنَّ بعض مثقَّفي الغرب – ممَّن يبادرون
في العادة إلى التزمير ما إن يشير لهم المايسترو في واشنطن – قد أثار لغطاً كبيراً
ضدّ ماركيز قبل سنوات قليلة مِنْ رحيله.
وذنبه الذي لا يغتفر – بالنسبة لهؤلاء – هو صداقته لفيديل
كاسترو!
لِمَ لا، فالأفضل أن يصادق المرء مَنْ يدفع له لا من
يتَّفق معه في المواقف والمبادئ، وخصوصاً إذا كانت هذه المواقف والمبادئ لا تعجب
واشنطن!
ثمّ إنَّ صداقة ماركيز لكاسترو قديمة جدّاً؛ فما الذي
ذكَّر هؤلاء القوم بها في ذلك الوقت بالذات؟!
هذا يؤكِّد أنَّ «جريمة» ماركيز الحقيقيَّة، التي أرادوا
أن يعاقبوه بسببها، إنَّما هي شيء آخر تماماً لا علاقة له بصداقته لكاسترو أو غير
كاسترو..
بالمناسبة، مَنْ منّا مَنْ لا يزال يتذكَّر بيان ماركيز
ضدّ «إسرائيل»، الذي قال فيه إنَّه يشعر بالعار لأنَّه حاصل على جائزة نوبل التي
حصل عليها مِنْ بعده مجرم حرب اسمه مناحيم بيغن؟!
لقد صمت القوم، في حينه، إزاء هذا الحدث الثقافيّ
والسياسيّ والأخلاقيّ المهمّ، واكتفوا بالتعتيم عليه. ومفهوم، طبعاً، أنَّ الدوائر
المختصَّة لديهم قد شرعت على الفور – كما هي عادتها – بالتحضير للهجوم المعاكس
الذي لا بدَّ من شنِّه في الوقت المناسب، ضدّ هذا الشخص الذي تجرأ فقال إنَّه ليس
مجرَّد نعجة في القطيع وإنَّه لا يقبل أن يكون الآخرون قطعاناً هم أيضاً. ورتَّبوا
بحيث يكون الهجوم، كالعادة، مباغتاً ويبدو كما لو أنَّه مقطوع الصلة بالسبب
الحقيقي الذي استدعاه.
وللذين لم يطَّلعوا على هذا الموضوع من الأصل، أو الذين غاب
عن ذاكرتهم، نعرض في ما يلي معالم جريمة ماركيز «الموصوفة»: لقد قال، بكلّ وضوح،
إنَّ إسرائيل غير شرعيَّة، وإنَّ حكاية الملايين الستة من اليهود ضحايا هتلر،
انضمَّت إلى ترسانة الخرافات اليهوديَّة، تمهيداً لإعادة ارتكابها من جديد تحت
غطاء جائزة نوبل للسلام. وأكثر من ذلك تجرّأ على تشبيه الصهيونيَّة بالنازيَّة،
وأعلن بملء فمه بأنَّه لا أحد عانى في الحقيقة مثل الشعب الفلسطينيّ.
ومعروف، طبعاً، أنَّهم لا يسمحون بمقارنة عشرات الملايين
مِنْ ضحايا الحرب العالميَّة الثانية (منهم حوالي ثمانية وعشرين مليون من
الاتِّحاد السوفييتي وحده)، بالملايين الستة من اليهود الذين يقولون إنَّ
النازيّين قتلوهم.
وفي بعض الدول الغربيَّة الديمقراطيَّة جدّاً، يُقدَّم
للمحاكم (ويُعاقَب) كلّ مَنْ يحاول أن يشكِّك بهذا الرقم، مجرَّد تشكيك؛ فيقول،
مثلاً، إنَّه خمسة ملايين وليس ستَّة! فكيف إذا كان هناك مَنْ يقول إنَّ ثمَّة
شعباً آخر هو الأكثر معاناة، وإنَّ معاناته تتمّ على يد مَنْ يقولون إنَّهم هم
الضحيَّة صاحبة المرتبة الأولى بين الضحايا؟!
ويتجرّأ ماركيز أكثر، فيدعو أصحاب الضمير في العالم إلى
رفع صوتهم وأن لا يخشوا الابتزاز باتِّهامهم بمعاداة الساميَّة وما إلى ذلك.
محذِّراً إيَّاهم بأنَّهم، بخضوعهم لهذا الابتزاز الرخيص الذي لا يستحقّ أن يُعامل
إلا بالاحتقار، إنَّما يبيعون أرواحهم.
لقد تعمَّد ماركيز أن لا يصيغ عباراته باللغة
الدبلوماسيَّة المبتذلة الدارجة التي جرى ويجري تعميمها تحت سطوة العصا والجزرة
الأميركيَّتين؛ وذلك ليوقظ النائمين، مِنْ جهة؛ وليبعث العزيمة في نفوس الخائفين
والخائرين، مِنْ جهة ثانية؛ وليربك – بما له مِنْ وزن وسمعه ثقافيّين وأخلاقيّين –
التماسكَ المفهوميَّ الزائفَ للإمبرياليين والصهاينة، من جهة ثالثة.
لقد تجاوز ماركيز عن كلّ ما حاول الغرب و«إسرائيل»
والخنوع العربيّ ترسيخه حول «شرعيَّة» إقامة «إسرائيل» على أنقاض فلسطين وأشلاء
الفلسطينيّين، وعاد بالقضيَّة إلى جذورها الحقيقيَّة ومسمَّياتها الصحيحة وتسلسلها
السليم؛ ففضح كذبة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، ثمّ ربطها بشبيهتها النازيَّة
«المجال الحيويّ».
وبعد ذلك، نطق بالحقيقة الساطعة، التي لا تجرؤ الغالبيّة الساحقة مِنْ مثقَّفي العالم على النطقبها، قائلاً مِنْ دون تلعثم أو تمويه: «هكذا قامت الدولة الإسرائيليَّة غير المشروعة في 1948».
وهذا بينما لا يكتفي مثقَّفون عرب بالإقرار ب«شرعيَّة»
«إسرائيل»، بل يتحدَّثون عنها كما لو أنَّها لم تنشأ - عن طريق استخدام
القوَّة الغاشمة - على أرض عربيَّة اسمها فلسطين، وكما لو أنَّ سكانها المستوطنين لم يحلّوا
محلّ شعبٍ عربيّ اسمه الشعب الفلسطينيّ!
إنَّهم يتصرَّفون ويتكلَّمون كما لو أنَّهم مدعوون إلى الجلوس
إلى مائدة المفاوضات مع العدوّ، وكما لو أنَّه من الطبيعي أن يكون أفق المثقَّف
محدوداً بحدود «واقعيَّة» السياسيّ – التي ثبت بالتجربة العمليَّة حتَّى الآن
أنَّها ليست واقعيَّة – بدلاً مِنْ أن يكون مفتوحاً على الحلم، بل وعلى المستحيل
أيضاً، ومستنداً إلى الطموحات والقيم الإنسانيَّة الرفيعة.
ربَّما هم لا يعرفون أنَّ التاريخ كثيراً ما أثبت أنَّ
حلم المثقَّف، ومستحيله، أكثر واقعيَّة وإمكانيَّة للتحقُّق من «واقعيَّة»
السياسيّ «المحترف» الذي تعوَّد أن ينظر إلى التاريخ باعتباره حصيلة سلسلة من
الألاعيب والمكائد وليس تتويجاً لنشاطات الناس المعبِّرة عن
أشواقهم ومصالحهم وطموحاتهم.. حتَّى إن كانت، في كثيرٍ من الأحيان، غير ملحوظة
وغير واعية.
وبخلاف هؤلاء المثقَّفين «الدبلوماسيّين»، أوضح ماركيز
أنَّ مشاريع السلام العربيَّة الإسرائيليَّة، ابتداء من كامب ديفيد وما تلاها مِنْ
أوسلو ووادي عربة، لم تحقِّق السلام الحقيقيّ، بل كانت، بالنسبة لقادة «إسرائيل»،
بمثابة الضوء الأخضر ليستمرّوا بوسائل مبتكرة في تحقيق المشروع الصهيونيّ الذي لا
يزال -كما قال - حتَّى هذه اللحظة، يمضي قدماً.
وهذا، أيضاً وأيضاً، بينما يتحدَّث العديد من المثقَّفين
العرب عن مزاعم السلام كما لو أنَّها حقيقة مطلقة!
ويجب أن نتذكَّر أيضاً، في مقابل شجاعة ماركيز ووضوح
موقفه، أنَّ أربعة عشر مثقَّفاً عربيّاً بارزاً كانوا قد وقَّعوا، بمنتهى الحميَّة
والحماس، على بيانٍ دعوا فيه الحكومة اللبنانيَّة إلى منع عقد مؤتمرٍ للمؤرِّخين
المراجعين – ممَّن درسوا «الهولوكوست» بصورة موضوعيَّة غير خاضعة للابتزاز – على
أرض لبنان.. في شهر نيسان من العام 2001.
ويبدو أنَّ حكومة رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريريّ
كانت تنتظر مثل هذه الفرصة على أحرّ من الجمر؛ إذ بادرت فوراً إلى إصدار قرارٍ
بمنع المؤتمر. لكنَّنا، مع الأسف، لم نلحظ، لا قبل ذلك ولا بعده، أنَّ أولئك
المثقَّفين الأربعة عشر، أنفسهم، قد اجتمعوا على فعلٍ مشابهٍ في أهميَّته وتأثيره،
في مواجهة المذابح التي يقيمها الصهاينة للشعب الفلسطينيّ بصورة متواصلة.. منذ
احتلال فلسطين وحتَّى الآن، وكذا في مواجهة الصمت المشين والنفاق المقرف الذي
يمارسه الغرب إزاء هذا الموضوع.
كلٌّ يختار الصفّ الذي يليق به أن يقف فيه؛ لذلك، فبينما
اختار بعض المثقَّفين العرب الوقوف خلف صفّ الابتزاز الإمبرياليّ الصهيونيّ، لم
يكن غريباً أن يقف ماركيز (صديق فيديل كاسترو) في صفّ الشعب الفلسطينيّ، وأنْ
يقول: «أنا أعلن إعجابي غير المحدود ببطولة الشعب الفلسطينيّ الذي يقاوم
الإبادة بالرغم من إنكار العظمى الأعظم أو المثقَّفين الجبناء أو وسائل الإعلام أو
حتَّى بعض العرب لوجوده».
ولقد وقَّع ماركيز بيانه، كما قال، منفرداً، لكنَّه دعا
الخائفين مِنْ أصحاب الضمير في العالم إلى التخلُّص مِنْ جبنهم، قائلاً لهم: «إلى
متى نظلّ بلا ألسنة؟!»
ولم يكن هو بلا لسان، بالطبع؛ بدليل أنَّه قال ما قال،
واستحقَّ بذلك غضب بعض الزمَّارين ومَنْ يدفع لهم، فبحثوا له عن تهمة، وحين لم
يجدوا، قالوا: «إنَّه صديق كاسترو»! ثمَّ انتظروا أن يرتبك، ويخضع لابتزازهم،
ويستسلم لمنطقهم، لكنَّه بأخلاقه الرفيعة، وشجاعته المعروفة، ووضوح رؤياه، أدار
لهم ظهره ورفض أن يخلع صاحبه.
بقي أن نعرف، نحن أيضاً، في العالم العربيّ والإسلاميّ،
مَنْ هو صاحبنا ومَنْ هو عدوُّنا، ونتعامل مع كلٍّ منهما بحسب موقفه منَّا.