رأى
الكاتب الأميركيّ جاك لندن (12 كانون الثاني/يناير 1876 - 22 تشرين
الثاني/نوفمبر 1916)، في روايته «العقب الحديديّ» الصادرة في العام 1907،
بأنَّ الطغمة الماليَّة (الأوليغارشيَّة) الحاكمة في الولايات المتَّحدة، تتَّسم
بطاقة كامنة هائلة للعنف والقهر، وبأنَّها غير مستعدة مطلقاً للتنازل عن أيّ قدر
مِنْ مكاسبها الضخمة للشعب الأميركيّ، أو تقاسم السلطة (ناهيكم عن تداولها) مع
الطبقات الأخرى في بلادها. وتوقَّع أنَّ هذه الطغمة ستلجأ، عند ظهور أيّ بوادر
جديَّة للمنافسة من الطبقات الأخرى وتيَّاراتها السياسيَّة، إلى تنفيذ مذبحة
وحشيَّة غير مسبوقة.
على
أيَّة حال، المذبحة التي توقَّعها جاك لندن حدثت في ما بعد بصورة بشعة، ولكن في
حقل الفكر والثقافة. إذ أنَّ الطبقات الأخرى (وقواها السياسيّة) المناهِضة
للأوليغارشيَّة لم تمثِّل أيَّ منافسة جدّيّة لها، ولكنَّ التحدِّي الذي واجهها
بالفعل كان على المستوى الثقافيّ والفكريّ؛ وخصوصاً عندما انتشرت الأفكار
اليساريَّة على نطاقٍ واسعٍ في الأوساط الفنيَّة والثقافيَّة والأدبيَّة
والأكاديميّة خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. عندئذٍ، شنَّت الطبقة الحاكمة
حرباً شعواء، لا رحمة فيها، على كلّ الذين كانوا يتبنّون تلك الأفكار مِنْ تلك
الأوساط. وجرت «مطاردة شاملة وغير مسبوقة في القرن العشرين أدَّت إلى اعتقال آلاف
الشيوعيّين أو الذين يُشكُّ بأنَّ لديهم توجّهات شيوعيّة، وجرى تقديمهم إلى القضاء
بتهمة محاولة الإطاحة بالحكم بالقوّة[1] أو
العنف».[2]
وكان
ذلك مناخاً قاتماً للإرهاب والرعب، بل كان كافكاويّاً. فـ«في ذلك الزمان كان
امتلاك أسطوانة للفنان بول روبسون (مغنٍّ وممثل أميركيّ مِنْ أصل إفريقيّ
منتمٍ للشيوعيّة، ومِنْ أبرز المناهضين للإمبرياليّة) يُعدُّ عملًا تخريبيًاً».[3]
(يُذكِّرني هذا بما كان يُعامَل به في الأردنّ، في خمسينيّات القرن
الماضي وستينيّاته، كلّ مَنْ كان يُضبَط متلبّساً بالاستماع إلى إذاعة «صوت العرب»
المصريّة).
وآنذاك،
طُلِبَ حتَّى من الأطفال في الولايات المتّحدة أنْ يكونوا مخبرين لجهاز الشرطة
الأميركيّ FBI؛
حيث اشتمل كتابٌ مدرسيّ للأطفال عنوانه «استكشاف التاريخ الأميركيّ» على
«المناشدة» التالية: «يناشد FBI كافة الأميركيين أن يقوموا بإبلاغ مكاتبهِ مباشرة عن أيَّة شكوك
لديهم أو ارتياب في وجود أيّ نشاط شيوعيّ مِنْ جانب الأميركيين. ولدى FBI الخبرة التدريبيّة الكافية للتمكُّن مِنْ تمحيص تلك التقارير في
ظلّ قوانين أمّتنا الحرّة. إنّ الأميركيين عندما يتناولون شكوكهم بهذا الأسلوب،
فهم بذلك يعملون وفقًا للتقاليد الأميركية».[4]
وآنذاك
أيضاً، تمَّتْ إزالة عشرات ألوف الكتب من المكتبات الأميركيّة، ومُنِعَ نشرُ
(وتداول) كتب لعددٍ مِنْ أهمّ الكتّاب والفلاسفة والمفكّرين، ومنهم: عالم النفس
الشهير سيجموند فرويد، وجان بول سارتر، ومكسيم جوركي، وجون
ريد، ووليام كارلوس ويليامز. كما سرى الحظر، كذلك، على نظرية النسبية
للعالم آلبرت إينشتاين.[5]
وأُخضِعَ
جميع الكتّاب والمثقَّفين للمراقبة؛ حيث كُشِفَ لاحقاً عن ملفّاتٍ كانت قد
حُفِظَتْ لهم في دوائر الأمن، سُجِّلَتْ فيها تفاصيل أنشطتهم وتحرّكاتهم. ومِنْ
أبرز أصحاب هذه الملفّات: أرنست هيمنجواي، وجون كرو رانسوم؛ وهوارد
فاست، ولانجستون هيوز.[6]
كان هيمنجواي يعرف
أنَّه مراقب، وقد أصابه الاكتئاب، وقبيل انتحاره في 2 تمّوز/يوليو 1961 ذهب إلى
عيادة نفسيّة في مينوسوتا وطلب أنْ تُدوَّن حالته في سجلّات العيادة تحت اسمٍ آخر
غير اسمه الحقيقيّ؛ بيد أنَّ الطبيب اتَّصل بإدارة التحقيقات الفدراليّة FBI ليأخذ موافقتها على ذلك.[7]
اضطلعتْ بعمليّة التطهير والتنكيل الوحشيّة، تلك، اللجنة التي كانت تُسمَّى «لجنة الكونغرس للنشاطات غير الأميركيَّة»، وقد أُنشئت في العام 1938 واستمرَّت بالعمل تحت الاسم نفسه لغاية العام 1968، ثمَّ غُيِّر اسمها إلى «لجنة الكونغرس للأمن الداخليّ». وكان أوج نشاطها خلال الفترة الواقعة ما بين العامين 1946 و1956. وعُرِفَتْ الحملة الشعواء، التي شنَّتها «اللجنة» ضدّ أهمّ مثقفي الولايات المتَّحدة وكتَّابها وفنَّانيها مِنْ ذوي الاتِّجاهات اليساريّة أو مَنْ كان يُشتبه بأنَّ لهم توجّهات يساريّة أو بأنَّ لهم علاقات شخصيَّة مع يساريين، بالمكارثيَّة.. نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثي، رئيس «اللجنة».
كان
مِنْ حقّ هذه «اللجنة» أنْ تستدعي للتحقيق أيَّ شخصٍ تقول إنَّها تشتبه بانتمائه
للشيوعيّة. وكان على «المشتبه به» إثبات براءته من التهم الفكريَّة والثقافيَّة
والسياسيَّة المنسوبة إليه. ولم يكن ينفعه إثبات عدم وجود علاقة له بالحزب
الشيوعيّ الأميركيّ؛ بل كان يجب عليه أيضاً أنْ يشي بزملائه وأصدقائه ومعارفه مِنْ
ذوي الأفكار اليساريّة، كسبيل وحيد لإثبات «براءته» والنجاة بنفسه؛ وإلّا ثبتت
الشبهة عليه واُتُّهِمَ بـ«الخيانة» ونُكِّلَ به.
ومَنْ يقرأ محاضر تحقيقات «المكارثيّة»[8]، يلحظ بسهولة كيف كان المثقَّفون يحاولون بصعوبة (ورعب) المرور وسط حقل
الألغام الذي كانت تزرعه «اللجنة» مِنْ حولهم؛ فأيّة زلَّة لسان كانت تعتبر إهانة
لـ«اللجنة»، قد تُدخِل صاحبها السجن وتقود إلى تدمير حياته المهنيَّة والشخصيَّة.
كما أنَّ أيّ تمسُّك بالمبادئ والقيم كان يُعتبر أيضاً إمَّا دليلاً على نشاط
مشبوه أو أنَّه يمثِّل إهانة لـ«اللجنة». وفي الحالتين، كان صاحب هذا الموقف يجد
نفسه أمام عقاب رهيب.
وقد
تعرَّض مثقَّفون كبار للإذلال أمام «اللجنة»، وازدُريت أفكارهم ونتاجاتهم
الفنيَّة، وأُهينوا، مِنْ أشخاص غير مؤهَّلين أساساً للحكم على هذه الأفكار أو
النتاجات أو أصحابها. ما يذكِّر بأجواء رواية فرانز كافكا «المحاكمة» التي
كُتِبَتْ في مطالع القرن العشرين. وبالمقابل، فإنَّ أجواء المكارثيّة
الكافكاويّة اُستُلهِمَتْ في أعمال أدبيّة مرموقة.. مثل رواية آرثر ميللر
«المحنة» (صدرت في العام 1953)، ورواية صنع الله إبراهيم «اللجنة»
(صدرتْ في أواسط ثمانينيّات القرن الماضي). وكلتاهما استخدمت الفانتازيا لإيصال
فكرتها.
ولقد
أدَّت مناخات الرعب هذه إلى هيمنة المخابرات (CIA) على الأنشطة الثقافيّة، والإنتاج الثقافيّ، والمثقَّفين. ومثل ما
صار يحدث لاحقاً في العالم الثالث (ومنه الأردنّ في أيّام الأحكام العرفيّة)،
مُنِعَ تجديد جوازات سفر كُتّاب ومثقّفين وفنّانين كبار، ومُنِع سفر آخرين.. ليس
إلى الاتّحاد السوفييتيّ مثلاً، بل إلى دول حليفة لواشنطن (بريطانيا، وفرنسا،
وألمانيا، على سبيل المثال).
وثمَّة تفاصيل كثيرة مذهلة في هذا المجال أوردتها
الصحفيّة البريطانيّة فرانسيس ستونر سوندرز، في كتابها «مَنْ يدفع إلى
الزمّار.. الحرب الباردة الثقافيّة.. المخابرات المركزيّة الأميركيّة وعالم الفنون
والآداب»، الذي يستند إلى وثائق كثيرة تتعلَّق بتلك المرحلة.
ومِنْ
ضمن ما كشفته سوندرز، بالأسماء والوقائع، هو أنَّ ضبّاط مخابراتٍ أميركيين
كانوا يشرفون على مؤتمراتٍ ثقافيّة دوليّة عُقِدَتْ في العواصم الأوروبيّة، كما
كانوا يديرون مجلّاتٍ ثقافيّة، ومهرجانات فنّيّة، وروابط وجمعيّات ثقافيّة انطوت
أسماء أكثرها على مفردة الحرّيّة. ومع الأسف، فإنَّ مثقَّفين عرباً بارزين
تورَّطوا في بعض هذه الأنشطة المخابراتيّة.
وكان ضبّاط المخابرات الأميركيّون - بحسب سوندرز
أيضاً - يتدخّلون في أدقّ تفاصيل أفلام هوليوود.. مَنْ يجب أنْ يمثِّل فيها
ومَنْ لا يجب أنْ يمثِّل، وماذا يجب أنْ يكون عِرق بطل الفيلم (أبيض أنجلوسكسونيّ،
أم لاتينيّ، أم هنديّ أحمر، أم آسيويّ، أم مِنْ أصل إفريقيّ.. الخ) وماذا يلبس،
وكيف يجب أنْ تكون سمات شخصيّته وردود فعله.. الخ. وذلك حسب الرسالة السياسيّة
التي يريدون إيصالها.
أعضاء اللجنة.. لقد قتلتم زوجي..
بالنتيجة، وجد كثير من المثقَّفين (والأكاديميين)
الأميركيين أنفسهم، بلا عمل وممنوعين من السفر، وأضطرَّ كثيرون منهم لوضع حدٍّ
لحياتهم، أو ماتوا بالأزمة القلبيَّة والجلطة، بمجرَّد استدعائهم للمثول أمام
«اللجنة» أو بعد قليل مِنْ مثولهم أمامها.
ومن هؤلاء: جون جارفيلد، وقد توفِّي بالأزمة
القلبيَّة إثر مثوله أمام «اللجنة» للمرَّة الثانية؛ وهاري ديكستروايت
توفِّي أيضاً بالأزمة القلبيَّة إثر مثوله أمام «اللجنة»؛ ومادي كريستيانز
ماتت بعد إدراج اسمها في «القائمة السوداء» بسبب عدم موافقتها على إفشاء أسماء
زملائها أمام «اللجنة»؛ وجون براون مات بعد إدراج اسمه في «القائمة
السوداء»؛ وأدوين وولف مات بالأزمة القلبيَّة بعد إدراج اسمه في «القائمة
السوداء»؛ وفيليب كوب انتحر بعد إدراج اسمه في «القائمة السوداء»؛ وأ. هربرت
نورمان انتحر؛ ومادلين دميتريك انتحرت؛ ولورنس دجان انتحر؛ وإبراهام
فللر انتحر؛ وريموند كابلان انتحر؛ وفرنسيس. أو. ماتيسن..
انتحر؛ وولتر مارفن سميث.. انتحر؛ ومورتون. أ. كنت.. انتحر؛ وجو
وينانت.. انتحر؛ وويليام. ك. شيروود.. انتحر، قبل يومين من مثوله أمام
«اللجنة». حاولت أرملته باربارا أن تلقي بياناً أمام «اللجنة»، ولكن ألقي
بها خارج القاعة، فوقفت هناك وألقت بيانها، ومِنْ ضمن ما جاء فيه: «أعضاء لجنة
النشاطات غير الأميركيَّة: لقد ساعدتم على قتل زوجي وجعل أطفالي الأربعة يتامى.
هذه مأساتنا الشخصيَّة. وهي ليست شيئاً بالمقارنة مع الجريمة التي ارتكبتموها ضدّ
أطفال أميركا وأطفال العالم».[9]
أتبيع أخوتك؟!
سعى بعض الذين استهدفتهم «اللجنة» إلى النجاة بالخروج من
الولايات المتَّحدة تهريباً أو بأيَّة وسيلة ممكنة، وهؤلاء أعدادهم بالآلاف،
وربَّما كان مِنْ أبرز الذين غادروا الولايات المتّحدة– آنذاك – لهذا السبب، شارلي
شابلن. في حين استجاب البعض الآخر لاشتراطات «اللجنة» ذليلاً خانعاً؛ فتنصَّل
من مبادئه، ووشى بزملائه، فكان من نتيجة ذلك أن سُمح له بمواصلة عمله الثقافي
والفنِّي، لكن بعدما تمَّ قتله من الداخل تماماً.
ومِنْ أبرز الذين اتَّخذوا مثل هذا الموقف المشين،
المخرج الأميركيّ الأرمنيّ الأصل، إيليّا كازان. وكان قد اشتُهر بأعماله
الفنيَّة المميَّزة التي تنتصر لحريَّة الإنسان وتقدُّمه. كما أنَّه كان عضواً في الحزب
الشيوعي الأميركيّ، إلا أنَّه لم يتحمَّل ضغوط اللجنة، فانهار ونشر بياناً
مدفوع الأجر في صحيفة نيويورك تايمز قال فيه إنَّه عندما انتمى للحزب
الشيوعيّ كان مخدوعاً بأفكاره وممارساته وأهدافه، وكان يظنُّه يعمل لصالح
الشعب الأميركيّ.. الخ. لذلك فإنَّه انسحب منه. ما يذكِّر بالصيغة التي كانت
مستخدمة في الأردنّ «أنا فلان الفلانيّ.. أُعلِن براءتي من الحزب الشيوعيّ
الأردنيّ المحظور، واستنكاري لمبادئه الهدّامة، وولائي لجلالة الملك المعظَّم
وحكومته الرشيدة».
غير أنَّ «اللجنة» لم تكتفِ بهذا مِنْ كازان؛
الأمر الذي اضطرّه للمثول أمامها مرَّة أخرى، ليقدِّم لها اعترافاً كاملاً يتضمَّن
أسماء زملائه ورفاقه في الحزب؛ بمن فيهم مَنْ كان هو قد أقنعهم بالانضمام إليه،
وكذلك الرفيق الذي نظَّمه فيه. وفي اليوم التالي، وقَّع عقداً بمبلغ 500 ألف
دولار. الأمر الذي جعل رفيقه السابق توني كرابر يقول له مستنكراً: أتبيع
أخوتك بخمسمائة ألف دولار؟!
وتسبَّبت وشاية كازان بإلحاق أذىً شديد بعددٍ غير
قليل (أكثر مِنْ 100) مِنْ زملائه كُتّاب السيناريو والإخراج السينمائيّ في هوليوود،
واضطر بعضهم – لكي يواصل عمله ويتجنّب الجوع والفاقة – إلى استعارة أسماء آخرين
مِنْ زملائه ووضعها على أعماله بالاتّفاق معهم. وفاز بعض هذه الأعمال بجوائز
الأوسكار. ومِنْ هؤلاء: دالتون ترومبو. وقد فاز فيلمه «الشجاع»،
الذي قُدِّمَ باسم روبرت ريتش، بجائزة أحسن سيناريو؛ وكارل نورمان ومايكل
ويلسون اللذان اشتركا في كتابة سيناريو فيلم «جسر على نهر كواي» وقد
قُدِّمَ باسم بيار بول. وإنَّ 82 فيلماً، مِنْ أهمّ الأفلام الفائزة بجائزة
الأوسكار في تلك الفترة، قد نُسِبَتْ إلى غير أصحابها الحقيقيين. ومِنْ
أبرز الذين تأذّوا أيضاً بسبب وشاية كازان: هارولد لاوسون وزيرو
موستل[10].
موقف لسارتر وآخرين
أثار سقوط إيليا كازان صدمةً كبيرة في أوساط
المثقَّفين، في الولايات المتّحدة وفي العالم كلّه؛ فنبذه أصدقاؤه والكثير من
الفنّانين، بل إنَّ آرثر ميللر ومارلون براندو وآخرين رفضوا حتَّى
مجرد مصافحته. وأصدر الفيلسوف الوجوديّ الفرنسيّ الشهير جان بول سارتر، في
إثر ذلك، بياناً ضدّ سقوط المثقَّفين والمبدعين في مستنقع الوشاية بزملائهم
والتنكّر لمبادئهم، «فوقَّع أكثر مِنْ ألف مثقَّف وفنَّان ومفكِّر عالميّ على هذا
البيان»[11]، وجاء فيه:
«كلّ مبدع أو مثقَّف هو بالضرورة صوت مختلف..
مهمّته تغيير الواقع إلى واقع أفضل.. ولا قيمة لمبدعٍ أو مثقَّفٍ يجلس في صفوف
الموالين ويصوّت مع الأكثريّة على بقاء الواقع على ما هو عليه.. فهذا ضدّ طبيعة
الأشياء.. وخلط في الأوراق.. وخلل في توزيع الأدوار».
وجاء
في البيان أيضاً:
«من الطبيعي أن يكون العقاب مِنْ نصيب كلّ
مثقّف يحاول تغيير الدنيا بكلماته.. ويحاول أن يغيّر بهذه الكلمات أيضاً جغرافية
الحياة السياسيّة وجغرافية النفس البشريّة.. إنَّ العقاب في هذه الحالة هو نوع
نادر من الشرف لا يحظى به كلّ مَنْ غيّر دوره ومهنته من الكتابة إلى الوشاية»[12].
جزاء الواشي
وقعت وشاية إيليا كازان في العام 1952. وبعد 47
سنة (في العام 1999)، أي في أواخر حياة كازان، أراد القائمون على الأكاديمية
الأميركية لعلوم وفنون السينما تكريمه عن مجمل أعماله السينمائيَّة. ولكنّه
عندما صعد إلى المنصَّة لتسلُّم جائزته، وُوجه بالصدود والاستنكار الشديد
والازدراء مِنْ زملائه كبار نجوم السينما الأميركيَّة، لفعلته المشينة القديمة
تلك.. رغم أنَّ معظمهم لم يكن قد عايشها. لقد كان قبل تلك الفعلة مشهوراً بكونه
فناناً كبيراً، أمَّا بعدها فقد أصبح مشهوراً بكونه واشياً كبيراً.
وفي مذكراته وهي بعنوان «حياة» حاول كازان تبرير
موقفه قائلاً: «إنَّ أيّ شخص يقدم على الإبلاغ عن الآخرين يقوم بعمل يثير القلق
بل الازدراء.. إنَّ مثل هذا التصرّف يزعج ضمير أيّ شخص ولكن في الوقت نفسه يجب
الحكم على الأمر في إطار ما دار مِنْ أحداث في عام 1952»[13].
على العكس مِنْ إيليا كازان، فإنَّ المخرج
والكاتب الأميركيّ أبراهام بولونسكي (توفّي في العام 1999) يُعتبر أحد أبرز
المخرجين الذين دفعوا ثمناً باهظاً لمواقفهم الصلبة في مواجهة المكارثيّة؛
حيث أنَّه رفض التعاون مع «اللجنة» أو تزويدها بأسماء زملائه اليساريين العاملين
في هوليوود، بل إنَّه أدانها أيضاً وشجب عملها ودافع عن حرّيّة الفكر التي
قال إنَّ الدستور الأميركيّ يكفلها؛ فوُضِعَ في «القائمة السوداء»، ومُنِعَ
من العمل في هوليوود. فاضطرّ، مِنْ أجل كسب عيشه، إلى وضع أسماء بعض زملائه
– بالاتِّفاق معهم – على السيناريوهات التي كان يكتبها. وظلّ وفيّاً لمبادئه حتَّى
آخر حياته. وعند تكريم كازان في هوليوود احتجّ على ذلك بشدّة لدى الأكاديميّة
الأميركيّة لعلوم وفنون السينما، قائلاً إنَّه لا يستحقّ التكريم.[14]
واشٍ أصبح رئيس دولة
إذا كان كازان وآخرون قد جبنوا وتخاذلوا وخضعوا للقمع،
فثمَّة – بالمقابل – مَنْ تطوَّع مِنْ تلقاء نفسه لكتابة التقارير ضدّ زملائه
والوشاية بهم. لقد كان ذاك ممثِّلاً متواضع الإمكانات فشل في تحقيق أيّ إنجازٍ
فنّيّ يُعتدّ به. ولذلك، يمكن الاستنتاج أنَّ وشايته نابعة مِنْ رغبته في التعويض
عن شعوره بالنقص حيال إنجازات زملائه العالية.
وصحيح أنَّ هذا الممثِّل الرديء كوفئ في ما بعد مكافأةً
كبيرة من الطبقة الحاكمة.. حيث تمّ تنصيبه رئيساً للدولة؛ لكنَّه – رغم ذلك – ظلَّ
مشهوراً بدوره القديم كواشٍ بزملائه. إنَّه رونالد ريغان، الرئيس الأميركيّ
الأسبق الذي كان قد تقدَّم بـ«شهادة وديَّة» أمام «اللجنة» في العام 1947.
الذين عَمَّدوا أسماءهم بالرفض
العديد من الكتّاب والفنّانين والمثقّفين والأكاديميين
رفض أن يركع أو يتنازل عن كرامته وعن مبادئه، ولم يقبل لنفسه أن يتحوَّل مِنْ
مثقَّف كبير أو فنان كبير أو أديب كبير أو عالم كبير إلى واشٍ كبير. وكانت مواقف
هؤلاء أمام «اللجنة» مثالاً للشجاعة واحترام الذات؛ لذلك، اُعتبروا «شهوداً
عدائيّين»، ودفعوا أثمان مواقفهم تلك. ومِنْ هؤلاء: جرهارت آيزلر، وهانز
آيزلر، وجون هوارد لوسون، وبرتولت بريخت، وبول روبنسون، وآرثر
ميللر وآخرون.
وكمثال على مواقف هؤلاء، في مواجهة «اللجنة»، يمكن
الرجوع إلى البيان الذي أعدّه جون هوارد لوسون وحاول أن يلقيه أمام
«اللجنة» لكنَّها منعته من ذلك، فألقاه خارجها. ومِنْ ضمن ما جاء فيه: «ليس من
المدهش اختيار الكتَّاب والفنَّانين لهذا التشويه غير المهذَّب. فالكتَّاب،
والفنَّانون، والعلماء، والمربُّون، هم دائماً ضحايا الهجوم لأولئك الذين يكرهون
الديمقراطيَّة. ويحمل الكاتب مسؤوليَّة خاصَّة في خدمة الديمقراطيَّة، وفي توسيع
تبادل الأفكار. وإنَّني لفخور بانتقائي هدفاً للهجوم مِنْ جانب رجال يعملون بوضوح
– كما تظهر اعترافاتهم في المحضر – لخنق الأفكار ورقابة وسائل الاتِّصال».
ويتابع هوارد لوسون قائلاً: «وخلال محاولتها
غير المشروعة لإقامة ديكتاتوريَّة سياسيَّة تتحكَّم في صناعة السينما، حاولت
اللجنة تبرير تدخُّلها في فكر وضمير الأفراد على أساس أنَّ هؤلاء الأفراد يضمِّنون
سطوراً أو مشاهد في أفلامهم زعمت أنَّها "تخريبيَّة"».
موقف آينشتاين
ثمَّة بعض المواقف المشرِّفة لشخصيَّات مشهورة مِنْ خارج
الوسط الأدبيّ أو الفنِّيّ. وكمثال على ذلك، موقف العالم الشهير ألبرت آينشتاين
الذي نشره في صحيفة نيويورك تايمز في العام 1953، حيث دعا المثقَّفين الأميركيّين
إلى تحدِّي «اللجنة» وأن يرفضوا السماح لها بالتفتيش في ضمائرهم ومعتقداتهم، وقال:
«المشكلة التي تواجه مثقَّفي هذا البلد بالغة الخطورة فقد استطاع السياسيُّون
الرجعيُّون أن يغرسوا الشكّ لدى الجمهور في كلّ جمهور المثقَّفين بالتلويح أمام
أعينهم بخطرٍ من الخارج. وإذا نجحوا حتَّى الآن فإنَّهم يتقدَّمون لكبت حريَّة
التعليم وليحرموا مِنْ وظائفهم كلَّ أولئك الذين لا يثبتون خضوعهم، أي يميتوهم
جوعاً».
قال أيضاً: «وماذا يجب أن تفعل الأقليَّة من
المثقَّفين ضدّ هذا الشرّ؟ بصراحة لا يمكنني سوى أن أرى الطريقة الثوريَّة في عدم
التعاون بالمعنى الذي وضعه غاندي. فيجب أن يرفض كلُّ مثقَّفٍ يُستدعى للمثول أمام
إحدى اللجان أن يشهد، أي لا بدَّ أن يكون مستعدّاً للسجن والدمار الاقتصاديّ،
وباختصار، للتضحية برفاهيَّته الشخصيَّة لصالح الرفاهيَّة الثقافيَّة لهذا البلد».[15]
ثمار المكارثيّة المُرّة
لم يتوقَّف عمل «اللجنة» إلا بعدما أنجزت مهمّتها
تماماً؛ فكانت النتيجة كارثيّة مدمِّرة على الثقافة والأدب والفنون في الولايات
المتَّحدة. وأصبح الإعلام هناك مضبوطاً إلى حدٍّ كبير، في خطوطه الرئيسة، لتكون
مهمَّته الأولى والأساسيّة هي منع الناس من الوصول إلى معرفة حقائق واقعهم. وذلك
عن طريق إلهائهم بسيل هائل من المعلومات المنقوصة أو المغلوطة أو المحوَّرة أو
الموظَّفة سياسيّاً بطريقة مدروسة. أي أنَّه أصبح مكرَّساً لخدمة مصالح
الأوليغارشيّة.
وبالنتيجة أيضاً، أصبح المجتمع الأميركيّ، عموما، مِنْ
أكثر المجتمعات جهلاً بالسياسة الدوليّة وبواقع البلدان الأخرى، بل وبواقعه هو
نفسه على وجه الخصوص.. بخلاف ما كان عليه حاله قبل المكارثيَّة؛ حيث كان
واقعه السياسي في السابق أكثر تنوُّعاً وغنىً، وكانت توجد لديه أحزاب وتيَّارات
سياسيَّة مختلفة تعبِّر عن شيء من التعدُّديَّة، في حين أنَّنا نجد أنَّ الحياة
السياسيَّة الأميركيَّة الآن فقيرة جدّاً؛ إلى حدّ أنَّها منذ مدَّة طويلة تقتصر
على ممثِّلي شريحتين ضيَّقتين مِنْ ممثِّلي الأوليغارشيّة الحاكمة الذين يمارسون
السياسة تحت مسمَّى الحزب الديمقراطيّ والحزب الجمهوريّ.
«وقد انعكست نتيجة كلّ هذا على الشعب الذي لم
يقرِّر اعتزال الحياة السياسية فقط، بل الاجتماعية أيضاً، فقد انغلقَ كلُّ فردٍ
على نفسه، وأخفى آراءه الشخصية خوفًا من أن يُساء فهمها، ويُتَّهم بالانتماء
للشيوعيّة، وأصبح المبدأ القائل: "إن لم تكن معي فأنت لا محالة ضدِّي"
هو السائد في ذلك الوقت».[16]
وتسبَّب «مصطلح "أعداء من الداخل"، في
دخول الولايات المتّحدة منعطفًا تاريخيًا مظلمًا امتلأ بالقمع وشكوك المواطنين في
بعضهم البعض، وإبلاغ أبناء الحيّ الواحد عن جيرانهم وأقاربهم وزملائهم في العمل
بدعوى الانتماء للشيوعيّة».[17]
بقي أنَّ مكارثي ولجنته لا يُذكران الآن، غالباً،
إلا في معرض الذمّ والازدراء والاحتقار؛ أمَّا أسماء ضحايا المكارثيّة، من
الرجال والنساء الشجعان الذين دافعوا عن حرّيّتهم وكرامتهم وإنسانيّتهم ودفعوا
أثمان مواقفهم باهظة، فتُذكَرُ بكلّ الاحترام والتبجيل والتقدير.
وهذا واحد مِنْ دروس التاريخ وعِبَرِهِ العظيمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ما
يشبه تهمة «تقويض النظام» التي استُخدِمَتْ بكثرة في السنوات الأخيرة في الأردنّ
لتبرير زجّ المعارضين في السجون.
[2] «ضحايا
المكارثيّة في الولايات المتحدة شملت الشيوعيين وخصومهم أيضاً» - موضوع منشور في
موقع التلفزيون البريطانيّ BBC في تاريخ 13 مايو/ أيار
2019.
[3] إسلام
محمد - موقع «ساسة» – 19أيّار/مايو,
2017 – مقال بعنوان (إن لم تكن معي فأنت ضدي.. هكذا كان عصر الرعب في أميركا
«المؤمنة»).
[4] المرجع
السابق.
[5] المرجع
السابق.
[6] المرجع
السابق.
[7] مقدِّمة
مترجم كتاب «مَنْ يدفع للزمّار.. الحرب الثقافيّة الباردة»، إلى العربيّة، د. عاصم
دسوقي. وهو ينسب هذه المعلومة إلى كتاب «أصول اليسار الأميركيّ»، مِنْ تأليف
تيودور دريبر، ومِنْ ترجمة د. عاصم دسوقي.. نفسه.
[8] عدد
لا بأس به مِنْ محاضِر المكارثيّة منشور في كتاب «المكارثيَّة والمثقَّفون» لأريك
بنتلي.
[9] المكارثيّة
والمثقَّفون – أريك بنتلي.
[10] عادل
حمّودة، مقال له بعنوان «مخبر يحصل على الأوسكار»، نُشِرَ في جريدة «البيان»
الإماراتيّة في تاريخ 17 نيسان/إبريل 1999.
[11] حسين
قطايا – مقال له بعنوان «لا شيء يبرر فعل الوشاية.. ريتشارد سكيكل يحاول تبرئة
إيليا كازان من إثمه»، نُشِرَ في جريدة «البيان» الإماراتيّة، في تاريخ 28 يناير
2006.
[12] عادل
حمّودة، مقال له بعنوان «مخبر يحصل على الأوسكار»، نُشِرَ في جريدة «البيان»
الإماراتيّة في تاريخ 17 نيسان/إبريل 1999.
[13] المرجع
السابق.
[14] أمير
العمري – كاتب وناقد سينمائي مصري – مقال له بعنوان «50عاماً على فيلم "قل
لهم ويللي بوي هنا"»، نُشِرَ في موقع جريدة «العرب» يوم الأحد 4 – 8 – 2019.
[15] المكارثيّة
والمثقَّفون – أريك بنتلي.
[16] إسلام
محمد - موقع «ساسة» – 19أيّار/مايو, 2017 – مقال بعنوان (إن لم تكن معي
فأنت ضدي.. هكذا كان عصر الرعب في أميركا «المؤمنة»).
[17] المرجع
السابق.