سعود قبيلات ▣
رحل ضافي الجمعانيّ (أبو موسى) عن هذه الفانية؛ رحل
المناضل الوطنيّ والقوميّ الكبير والصلب والشجاع؛ رحل آخر رمز من الرموز
التاريخيّة الكبيرة للحركة الوطنيّة الأردنيّة؛ رحل أحد أبرز قادة الضبّاط الأحرار
الأردنيين؛ رحل قائد «طلائع حرب التحرير الشعبيّة.. قوّات الصاعقة»؛ رحل «نائب القائد العامّ لقوّات الثورة الفلسطينيّة».
كثيرون، في بلادنا، أثَّرتْ في حياتهم (أو على الأقلّ
تركت بصمةً واضحة عليها) أمثولة ضافي الجمعانيّ. ولقد صادفتُ، في العديد مِنْ أرجاء
ديارنا الأردنيّة، أشخاصاً يحملون اسم «ضافي»، وعند السؤال عن أصل تسميتهم تلك كان يُقال لي: إنّه اسم
ضافي الجمعانيّ.
وكاتب هذه السطور واحدٌ من الذين فُتِنوا بأسطورة ضافي
الجمعانيّ وتأثَّروا بها كثيراً. وكان مِنْ حُسن حظَّي أن ربطت بيني وبين هذا
الإنسان الوطنيّ والقوميّ الشجاع والنبيل والصلب علاقة وطيدة من المحبّة والتقدير
والاحترام، وقد ظلَّ الأمر كذلك حتَّى آخر يومٍ في حياته.
ويُسجَّل لضافي الجمعانيّ أنَّه، عندما خرج من السجن،
ظلّ يتمسّك بكرامته واحترامه لنفسه، ويتعالى على المناصب والمكاسب، وينأى بنفسه عن
دوائر الضوء والسلطة والنفوذ.. بكلّ مستوياتها.
كما يُسجَّل له أيضاً
أنَّه ظلّ ثابتاً على موقفه الوطنيّ والقوميّ الناصع، ومهموماً بهموم شعبه وبلاده وأمّته،
ويعبِّر عن ذلك بصدق وصفاء كلّما وجد ذلك ضروريّاً.. حتَّى لو في المناسبات
الاجتماعيّة العاديّة.
طُلِبَ منه، في العام 2016، أنْ يتحدَّث في مناسبة
اجتماعيّة حاشدة. فقال العبارات البروتوكوليّة المألوفة في مثل هذه المناسبة، ثمَّ
انتقل سريعاً إلى الحديث عن تردِّي أحوال البلاد والشعب وعن التعديلات الدستوريّة
غير الديمقراطيّة، التي أُجريَتْ في العام 2014 لتمنح الملك صلاحيّات إضافيّة فوق
الصلاحيّات المطلقة الأخرى الممنوحة له؛ فقال:
«أيُّها الكرام،
إنَّني مِنْ موقفي هذا، الذي شرَّفتموني به، أقول، بصوتٍ
عالٍ، إنَّ حالنا في المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة لَيُسعِدُ أعداءنا ويعمِّم
اليأس بين مواطنينا. إنَّنا نتقدَّم إلى الخلف وليس إلى الأمام. والمثال على ذلك
هو أنَّ دستور عام 1952 الذي أشرف على إنجازه رئيس الوزراء الأسبق، صاحب الولاية،
السيّد توفيق أبو الهدى يرحمه الله، في عهد جلالة الملك طلال يرحمه الله، هذا
الدستور الذي شكَّل خطوةً متقدّمةً نحو ولاية الشعب على مصيره مِنْ خلال ممثِّليه
المنتخبين، أصبحت الولاية فيه، بعد أكثر مِنْ ستّين عاماً من التغيير المستمرّ في
منظومة الحكم، لجلالة الملك وحده، وأصبحنا نحن، مواطني المملكة، في القرن الواحد
والعشرين، رعايا لا مواطنين؛ فجلالته يعيِّن رئيس الوزراء كما يعيِّن قائد الدرك
والهيئة المستقلَّة للانتخابات وكلّ مناصب الدولة في هذا المستوى».
وختم كلامه داعياً «جميع الأحزاب والقوى السياسيَّة» إلى الاتِّفاق «على برنامج عملٍ سياسيٍّ تناضل مِنْ أجله نضالاً سلميّاً. وعنوانُ هذا
البرنامج هو تحقيق الحريَّة والكرامة والعدل الاجتماعيّ لكلّ مَنْ يعيش في هذا
الوطن. وبالتالي، تحقيق ولاية الشعب على مصيره مِنْ خلال ممثِّليه المنتخبين
الأحرار».
وبعد إصدار «لجنة المتابعة الوطنيّة» بيانيها الشهيرين (6 تشرين الأوّل/نوفمبر 2018 و13 شباط/فبراير 2019)،
هاتفني ودعاني للذهاب إليه. فقال لي إنَّه اطَّلع على بيانيْ لجنة المتابعة وإنَّه
يرحِّب بهما وينطلق منهما إلى الدعوة إلى قيام جبهة وطنيّة شعبيّة واسعة في البلاد
لإنقاذها وإقامة حكم وطنيّ ديمقراطيّ، بل إنَّه كان قد أعدَّ بياناً باسمه يعبِّر
فيه عن موقفه هذا وعن إعجابه بتشكيل لجنة المتابعة مِنْ معارضين مدنيين ومتقاعدين
عسكريين.
أخذتُ البيان منه، وكان بعنوان «نحو جبهة وطنيّة واسعة» ومؤرَّخ في 16 شباط/فبراير 2019، ونشرته على صفحتي في
الفيسبوك وفي بعض المواقع الإخباريّة. وقد قال فيه إنَّه يرى «أنَّ هذين البيانين (يقصد بيانيْ لجنة المتابعة) يضعان الإصبع على الجرح
والنقاط على الحروف، ويحدِّدان مواقع الخلل.. سواء أكانت دستوريّة أم سياسيّة أم
اجتماعيّة اقتصاديّة؛ ويكشفان بشجاعة أسلوب الحكم المتناقض مع إرادة الشعب
ومصالحه. وإنَّ مضمون هذين البيانين لَيشتمل على كلّ العوامل المطلوبة لتصحيح واقع
الدولة والمجتمع في الأردن، ويفصِّل بوضوح الأهداف الأساسيّة المشتَرَكة لكلّ
الوطنيين الأردنيين».
ثمّ دعا «جميع الوطنيين الأردنيين وجميع القوى الوطنيّة الحيّة» إلى «تشكيل جبهة وطنيّة شعبيّة واسعة تضمّ جميع قوى المعارَضة
الوطنيّة والقوى الشعبيّة الفاعِلة والشخصيّات الوطنيّة الناشطة» للعمل مِنْ أجل «إنقاذ البلاد وتحقيق مطالب الشعب الأردنيّ وأحلامه
باسترداد وطنه وثرواته وموارده وتقرير مصيره والسير على طريق التحرّر الوطنيّ
والديمقراطيّة والتقدّم الاجتماعيّ والانفكاك من التبعيّة وإلغاء كلّ أسباب هيمنة
العدوّ الصهيونيّ على البلاد.. وفي مقدّمتها معاهدة وادي عربة المذِلَّة
(وملحقاتها) التي أُبرِمَتْ بخلاف إرادة الشعب الأردنيّ وعلى النقيض مِنْ مصالحه».
ومع الأسف، لم تلقَ دعوة أبي موسى الصادقة والمسؤولة هذه
الاستجابة الملائمة من القوى السياسيّة الفاعلة. لكنَّه، رغم ذلك، لم يكفّ عن
الحلم بقيام الجبهة الوطنيّة الشعبيّة؛ فقبل حوالي شهرين مِنْ رحيله، هاتفني
ودعاني للقائه. وعندما التقيتُ به، عبَّر عن إعجابه الشديد بتحالف الشيوعيين
والبعثيين وبعض القوى السياسيّة التقليديّة في السودان ضدّ نظام عمر البشير،
معتبراً أنَّ ذلك يجب أنْ يكون قدوة للأحزاب والقوى اليساريّة والقوميّة الأردنيّة،
ولجنة المتابعة الوطنيّة، لإنشاء جبهة وطنيّة شعبيّة عريضة مِنْ أجل الوصول إلى التغيير
الديمقراطيّ المنشود. وقال لي إنَّه مستعدّ لبذل كلّ جهدٍ ممكن للمساعدة على
الوصول إلى هذا الهدف الضروريّ.
فحاولتُ، بكلّ أساليب الكناية والاستعارة (والموارَبة)
في اللغة العربيّة، أنْ أقول له إنَّ هذا غير ممكن – مع الأسف – في الوقت الحاضر؛ لأنَّ الظروف الذاتيّة للقوى
السياسيّة المعنيّة لم تصل بعد إلى هذا المستوى مِنْ تحمّل المسؤوليّة؛ لكنّه
أصرَّ على أنَّنا يجب أنْ نحاول.
وها هو أبو موسى قد رحل في هذا الظرف الصعب.. مِنْ دون
أنْ تُتاح لنا وللكثير مِنْ محبِّيه الفرصة لوداعه. وهنا، أستعير مِنْ مقالٍ
لشقيقي ياسر بعضاً من الكلام العميق الذي يلائم هذه المناسبة الحزينة:
«اليوم عرفتُ أنَّنا لا نموت فجأة، بل نموت تدريجيّاً، ونفقد أنفسنا جزءاً
جزءاً، بفقد الأحبة واحداً بعد الآخر، فتتغيَّر ملامحنا مع كلّ واحدٍ منهم، ونشيخ
بفقدانهم، ونفقد معهم عاداتنا البهيجة.. واحدة بعد الأخرى!».
نعم، رحل ضافي الجمعانيّ؛ لكنّ ذكراه العطرة ستبقى بيننا
ما حيينا، وسيبقى اسمه واحداً من الأسماء الحقيقيّة الكبيرة في تاريخ شعبنا
وبلادنا، وستبقى أمثولته الكفاحيّة قدوةً لكلّ المناضلين مِنْ أجل تحرّر وطننا
وشعبنا ونهوضهما.. ومِنْ أجل مجد أمّتنا العربيّة وتقدّمها.
فيا أيّها الإنسان الكبير الكبير أبا موسى..
لذكراك المجد والخلود،
ولشعبنا ووطننا وأمّتنا – كما أردتَ دائماً – البقاء والسؤدد،
وإنَّنا على دربك لسائرون..