سعود قبيلات ▣
يميل
الكثير من العاملين في الحقل الثقافيّ (والفكريّ) إلى السير على خطى المقاربات
النمطيّة المألوفة التي سبقتهم. فذلك يعطي انطباعاً بنوعٍ من الموضوعيّة الزائفة،
كما أنَّه يوفِّر عناء الاجتهاد والخوض في مغامرات فكريّة غير مأمونة.
وفي
الموضوع التالي، محاولةً للابتعاد عن المقاربات النمطيّة نحو مغامرة فكريّة ربّما
تكون مختلفة..
لَمَعَ
اسم رواية «السيِّد إبراهيم
وأزهار القرآن»، للكاتب الفرنسيّ
إيمانويل شميت، في العام 2003، عندما جرى تحويلها إلى فيلم باللغة الفرنسيّة حمل
الاسم نفسه. وقد مثّل فيه بدورٍ رئيسٍ الممثِّلُ المصريُّ المعروفُ عمر الشريف.
المقالات
التي نُشِرتْ عن هذا الفيلم في الصحافة، ركَّزت على القول بأنَّه يمثِّل خطاباً
مضادّاً لخطاب «صراع الحضارات»
الذي كثر الحديث عنه ابتداء مِنْ تسعينيّات القرن الماضي.
وفي
رأيي، هذا الكلام يشترك مع «خطاب
صراع الحضارات» في الأرضيّة
نفسها.. حتَّى إنْ قاربه مِنْ زاوية مضادّة؛ فهو، مثله، يخلط بين مفهوم الحضارة
وبين مفهوم الثقافة. وأشير، هنا، إلى أنَّني سبق أنْ عبَّرت عن رفضي التامّ لمصطلح
«صراع الحضارات»
في أكثر مِنْ مقال؛ حيث أنَّه لا توجد في العالم الآن سوى حضارة واحدة هي الحضارة
الرأسماليَّة. بيد أنَّ انقسام النظام الرأسماليّ الدوليّ إلى مراكز وأطراف قد أدَّى
إلى تجلِّي قوانينه في المراكز بصورة تختلف عنها في الأطراف.. حتَّى إنْ كانت المراكز
والأطراف محكومة معاً في النهاية بالقانون العامّ للرأسماليَّة.
البنيان
الفوقيّ لهذا النظام قائم بمجمله على تزييف الوعي.. لتبرير ما لا يمكن تبريره وهو غلبة
مصالح المراكز على حساب مصالح الأطراف، وغلبة مصالح الأقلّيّات الثريّة في البلدان
المختلفة على حساب مصالح فقرائها ومحدودي الدخل فيها. ولكنّ تزييف الوعي هذا يصطنع
لنفسه في المراكز شكلاً حداثويّاً، في حين أنَّه يتَّخذ في الأطراف شكلاً
ماضويّاً. إلا أنَّ الهدف في النهاية هو نفسه؛ ألا وهو الحفاظ على الوضع القائم.
غير
أنَّ هذا لا يمنع من القول إنَّ هناك بالفعل ثقافات مختلفة للشعوب المختلفة. لكنَّ
اختلاف ثقافات الشعوب لا يعدُّ بذاته سبباً للصراع بينها. السبب الحقيقيّ للصراع
والتوتّر، هو تناقض المصالح الذي تسبِّبه أعمال النهب والاستغلال والقهر والاضطهاد
والهيمنة التي تمارسها المراكز الرأسماليَّة ضد البلدان والشعوب المهمَّشة. وهذه
المراكز، نفسها، هي مَنْ يفرض على الأطراف هذا النمط الفظّ والمشوَّه من العلاقات
الرأسماليّة الهامشيّة.
والآن،
نعود إلى رواية «السيّد
إبراهيم وأزهار القرآن»..
لقد
قراتُ الترجمة العربيّة لهذه الرواية؛ فخرجتُ بالانطباعات التالية:
أوَّلاً،
وجدتُ نفسي إزاء عملٍ أدبيّ جميل وممتع وذي مغزى إنسانيّ. إنَّه مِنْ النوع الذي
حتَّى بعدما تنتهي مِنْ قراءته تظلّ مسحوراً لفترة بأجوائه.
ثانياً،
بدا لي أنَّ البعد «الحضاريّ»،
أو حتَّى الثقافيّ، الذي ركَّز كثيرون على الحديث عنه في ما يتعلَّق بالفيلم، ليس
هو الأساس في الرواية.
ثالثاً،
يندرج هذا العمل في سياق اتِّجاه أدبيّ غربيّ ملحوظ في العقدين الأخيرين؛ فحواه
العودة إلى الشرق وحكمة الشرق وقيم الشرق.. وما إلى ذلك. الأمر الذي يشير بوضوح
إلى وجود ظاهرة أدبيَّة معيَّنة، ويجعل من الضروريّ التدقيق فيها وفهم أسبابها
وظروفها، بدلاً من التعامل مع مفرداتها بالقطعة وكلاً على حدة.
وتالياً،
سأحاول أنْ ألخِّص الرواية بصورة تعطي فكرةً عن أجوائها والأفكار التي قُدِّمَتْ
مِنْ خلالها:
يدور
معظم أحداث الرواية في شارع في العاصمة الفرنسيَّة، باريس، يُسمَّى شارع بلو.
وجميع سكَّان هذا الشارع هم من اليهود، باستثناء صاحب بقالة اسمه السيِّد إبراهيم،
وقد اصطلح الجميع على تسميته بالعربيّ، أمَّا هو فيقول بأنَّه ليس عربيّاً، بل
مِنْ منطقة «الهلال الذهبيّ»،
وهي منطقة، كما يقول، تمتدّ من الأناضول إلى بلاد فارس.
أمَّا
لماذا يصرّ الجميع على تسميته بالعربيّ رغم ذلك، فيفسِّر هو الأمر قائلاً: «في
أعمال البقالة، فإنَّ العربيَّ بالنسبة لهم يعني أنَّك تفتح من الساعة الثامنة صباحاً
وحتَّى منتصف الليل، وحتَّى أيَّام الأحد».
وتُسلَّط
الأضواء في الرواية على السيِّد إبراهيم مِنْ خلال علاقته بصبيّ يهوديّ اسمه موسى،
أو مومو (تصغيراً لاسم موسى).. كما يسمِّيه السيِّد إبراهيم، نفسه، الذي يصبح
الشخص الوحيد القريب مِنْ نفس هذا الصبيّ وموضع ثقته، ويحلّ في تلك المكانة بديلاً
عن أبيه المحامي الذي لا تربطه به سوى علاقة باهتة تقتصر على جلوسهما معاً إلى
مائدة الطعام وتبادل بضع كلمات متوتِّرة يعبِّر معظمها عن الانتقادات المتكرِّرة
مِن الأب لابنه، بمناسبة ومِنْ دون مناسبة؛ وبديلاً عن أمِّه التي تركت البيت وهو
صغير؛ وبديلاً عن سكَّان الحيّ الذين يرى مومو أنَّ السيِّد إبراهيم يختلف عنهم
جميعاً.
يهجر
والد مومو البيت فجأة بعد الاستغناء عن خدماته في الشركة التي يعمل فيها، تاركاً
له القليل من النقود وورقة كتب فيها أسماء بعض أصدقائه الذين لا يعرفهم موسى،
طالباً منه اللجوء إليهم لتدبير أموره. ولكنَّ موسى يقرِّر أنْ يكتم خبر رحيل
أبيه، وأنْ يدبِّر أموره بطريقته، شاعراً بالخذلان الشديد لأنَّ الجميع يتخلَّى
عنه. ثمَّ لا يلبث أنْ يتبلَّغ، بوساطة الشرطة، بأنَّ والده انتحر بوضع نفسه تحت
عجلات أحد القطارات.
ثمَّ
فجأة تأتي أمّه للسؤال عنه، ولكنَّه ينكر أمامها أنَّه موسى، ابنها، ويدّعي أنَّه
شخص آخر يطلقون عليه في الحيّ اسم مومو في حين أنَّ اسمه الحقيقيّ هو محمَّد.
أمَّا موسى ابنها، فهو، كما يقول لها، غادر البيت.. «لقد
سئم حياته. لم يكن يحمل أيَّة ذكريات جميلة».
تضطرّ
الأم إلى مجاراته في ذلك، وتقول له: «إذا
رأيت موسى مرَّةً أخرى، قلْ له إنَّني كنت صغيرة عندما تزوَّجت أباه، وإنّي لم
أتزوَّجه إلا لأهرب مِنْ والديَّ. لم أكن أحبُّ والد موسى على الإطلاق. لكنِّي كنت
على استعداد لكي أحبَّ موسى. لقد التقيت برجلٍ آخر. والدك...».
«لم
أفهم قصدكِ؟». يقول لها مومو، في
إصرارٍ واضح على الاستمرار في هذا الدور الذي تقمَّصه مع أمِّه.
فتستدرك
قائلة: «أقصد والده، والد موسى،
قال لي: اذهبي إذاً، لكن اِتركي موسى معي، وإلا... لذلك تركتُه. كنت أفضِّل أنْ أبدأ
حياتي مِنْ جديد، حياة يكون فيها شيء من السعادة».
«هذا
أفضل، هذا شيء مؤكَّد». يقول مومو،
كما لو أنَّ الأمر لا يعنيه.
إنَّه،
في ما يبدو، يتقصَّد تعذيبها: «تأتي
نحوي. أشعر أنَّها ترغب في أنْ تقبِّلني. أتصرَّف وكأنِّي لا أفهم ما تريد. وبصوتٍ
ينمُّ على توسّلٍ سألتني: هل ستخبر موسى بذلك؟».
يقول:
«ربَّما».
ولا
تكون هذه الصيغةُ الغريبةُ للعلاقة بينهما مرحلةً عابرةً في حياتهما، كما هو
متوقَّع في الأحوال الطبيعيَّة، بل إنَّها تصبح صيغةً دائمةً. وتظلّ كذلك حتَّى
بعدما يكبر مومو ويصبح له زوجة وأولاد يخاطبون أمَّه، عندما يأخذهم لزيارتها كلّ
يوم اثنين، بـ«جدَّتنا».
ويختار
مومو، بعد وفاة أبيه، أنْ يصبح ابناً بالتبنِّي للسيِّد إبراهيم. وبعد مدَّة يأخذه
والده الجديد في رحلة بالسيَّارة إلى الشرق.. الشرق الذي جاء هو منه. إلا أنَّها
في الحقيقة رحلة إلى الشرق الاستشراقيّ وليس الشرق الحقيقيّ الذي لا نجد له أيَّ
أثرٍ أو ملمحٍ؛ لا في الرحلة ولا في الرواية عموماً.
وفي
الحقيقة، فإنَّ هذه الرحلة الاستشراقيَّة كانت بدايتها قبل ذلك بكثير. وبالضبط،
منذ أنْ تعرَّف مومو على السيِّد إبراهيم. العلاقة بينهما كانت وجهاً آخر مِنْ
وجوه الرحلة إلى الشرق. والسيِّد إبراهيم، كما تقدِّمه الرواية على لسان مومو،
يمثِّل ما هو شائع، استشراقيّاً، مِنْ حكمة الشرق وغموضه.
يموت
السيِّد إبراهيم بحادثٍ في الشرق، ويرثه مومو في كلِّ شيءٍ في الغرب؛ إلى حدّ
أنَّه في النهاية يصبح في نظر الجميع «العربيّ
المحليّ»، ويردِّد مثل أبيه
بالتبنِّي: «وفي عمل البقالة، أنْ
تكون عربيّاً يعني أنْ تفتح حتَّى ساعة متأخِّرة من الليل وفي أيَّام الأحد».
لقد
تعامل كثيرون مع هذا العمل، والأعمال الفنيَّة والأدبيَّة الغربيَّة المشابهة،
انطلاقاً من «الأطروحة»
السطحيَّة (الموظَّفة سياسيّاً) حول «صراع
الحضارات»، لأيديولوجيّ البنتاغون
الشهير صموئيل هنتنغتون. وحتَّى إنْ جاء تعاملهم ذاك (في هذا المقام بالذّات) في إطار
الرفض لتلك «الأطروحة»؛
فهم، مع ذلك، سلَّموا بها كقاعدة لمناقشة العلاقات بين الشرق وبين الغرب.
وبالنسبة
لي، فإنَّني أميل إلى فهم هذه الرواية مِنْ خلال أدوات معرفيَّة مغايرة تماماً:
مفهوم اللاوعي الفرديّ لدى فرويد، ومفهوم اللاوعي الجمعيّ لدى يونغ، وأدوات
التحليل الاقتصاديّ الاجتماعيّ لدى ماركس. إنَّه منهج أقرب ما يكون إلى إريك فروم.
على
أيَّة حال، بالاستناد إلى هذا «المنهج
المركَّب» الذي قد يبدو
غريباً للبعض، وبالاستناد أيضاً إلى حقِّي كقارئ في غضّ النظر عن ما يكون كاتب
الرواية قد اعتقد أنَّه يقصده أو يكون قد خطَّط للتعبير عنه مِنْ خلال روايته، فقد
نظرتُ إلى هذه الرواية وفهمتها على النحو التالي:
بالنسبة
للرحلة إلى الشرق، لم تبدُ لي كرحلة بين «الحضارات»،
بل كحالة هروب «احتجاجيّة»
من الحاضر إلى الماضي؛ من الحاضر الذي تحكمه «قوانين»
و«قيم»
الرأسماليّة المتوحِّشة (هذه الطبعة البشريَّة المحدَّثة مِنْ شريعة الغاب) إلى
الماضي البدائيّ البسيط الذي من المفترض أنْ يكون الناس فيه أكثر تآلفاً
وحميميَّة؛ إنها، بالأحرى، رحلة هروب رومانسيَّة مِنْ مدينة الشركات متعدِّية
(ومتعدِّدة) الجنسيَّة إلى ريف العالم وطبيعته البكر (أي الشرق كما هو منعكس
بصورته الزائفة في مخيِّلة بعض الغرب).
ولكن..
هل ريف العالم، هذا، بمنأى عن سطوة اليد الطولى للشركات عابرة القارَّات؟!
إنَّها،
أيضاً، رحلة «نكوصيَّة»
مِنْ قسوة الحياة، في ظلّ الطبعة الجديدة من الرأسماليَّة المتوحِّشة، إلى الرحم الدافئ
نسبيّاً لدولة الرعاية الاجتماعيَّة وحقوق الإنسان، كما مثَّلتها «الكنزيَّة»
و«الديمقراطيَّة الاشتراكيَّة»
في الغرب، خلال الفترة ما بين ثلاثينيَّات القرن الماضي وسبعينيَّاته. لقد كانت
دولة الرعاية الاجتماعيَّة، آنذاك، بمثابة الأم «الرؤوم»،
للفئات المتوسِّطة ومحدودة الدخل، إلا أنَّها تخلَّت عن أبنائها أولئك فجأة، أو
حيل بينها وبينهم. لذلك، فإنَّ مومو لا يستطيع أنْ يغفر لأمّه خطيئة تخلِّيها عنه
دونما سبب يفهمه أو مبرِّرٍ يقبله. كان يستمع إلى حججها وتبريراتها، ولكنَّه لم
يكن يقتنع بها. بل ظلَّ يحاول أنْ يردَّ الصاع إليها صاعين؛ فيتنكَّر لها مثلما
تنكَّرتْ له، ويتعامل معها باعتباره مومو الذي هو محمَّد، وليس مومو الذي هو موسى.
إنَّ
هذه الرواية، والروايات الأخرى المشابهة التي صدرت في العقدين الأخيرين، إنَّما
تمثِّل عودة جديدة إلى الرومانسيَّة؛ ولكنَّها، بالتأكيد، ليست الرومانسيَّة
القديمة نفسها، مثلما أنَّ عودة الرأسماليَّة إلى صيغتها المتوحِّشة لا تعني
بالضرورة أنَّها قد استعادت تماماً جميع ملامحها القديمة.. كما كانت في القرن
الثامن عشر. بيد أنَّ الثابت، في ما يبدو، هو أنَّه كلَّما مالت الرأسماليَّة إلى
التوحّش، خلقتْ – مِنْ ضمن ما
تخلق مِنْ ردود الفعل المختلفة على قسوتها –
طبعتها الخاصَّة من الرومانسيَّة.
ولنلاحظ
أنَّ هذه الرواية، التي نحن بصددها، لا تتوقَّف بما يكفي عند الخلفيَّة
الاجتماعيَّة الاقتصاديَّة التي تتحرَّك أحداثها في إطارها؛ حيث أنَّ المغزى
الأساسيّ لها (الرواية) هو، أصلاً، الهروب مِنْ قسوة الواقع المتمثِّل في تلك
الخلفيَّة بالذات. ولذلك، فإنَّها، بدلاً مِنْ مواجهته بصدق وشجاعة وجرأة، تصطنع
تلك الرحلة الاستشراقيَّة الهروبيَّة إلى الشرق، بكلِّ أبعادها الرومانسيّة،
وتتوهَّم بأنَّها هي الحلّ؛ إذ، بعدها، تصالحتْ الشخصيَّة الرئيسة في الرواية مع نفسها
ومع العالم؛ وبالأخصّ، مع محيطها.
ولكن،
أيّ شرق هذا الذي رحل مومو إليه وتوصَّل مِنْ خلال رحلته تلك إلى حلّ جميع مشاكله؟
وأين يوجد؟
فالشرق
الوحيد الذي نعرفه.. الشرق الموجود فعلاً، هو الشرق الذي يتحكَّم الغرب بمصائره،
وتعيث به الشركات المتعدِّية (والمتعدِّدة) الجنسيَّة، ووكلاؤها، افساداً
واستغلالاً. إنَّه الشرق الذي تُفرَض عليه الوصفات الأكثر همجيّة للرأسماليَّة
المتوحِّشة؛ الشرق المحكوم في معظمه تقريباً بأنْ يظلَّ هامشاً للمراكز
الرأسماليَّة في الغرب، وإذا ما تجرأ بعضه في ليلة صيف مقمرة على الحلم بالخروج
مِنْ حالته الطرفيَّة الهامشيَّة، جرى ضربه بقسوة وتهشيمه ودوسه مِن الغرب نفسه
الذي يوجد داخله هو الآخر «شرق»
و«غرب»
أيضاً مِنْ أبناء جلدته؛ فيحلم بعض «شرقه»
الخاصّ برحلة خلاص طوباوبّة إلى الشرق الآخر (الخارجيّ)؛ الشرق الأسطوريّ الذي «أسطره»
الغرب وما لبث أنْ صدق أسطورته.