«كهفي» هي مجموعة سعود قبيلات القصصيّة السادسة والصادرة عن وزارة
الثقافة الأردنيّة ضمن مشروع التفرغ الإبداعي لعام 2012 وتقع في 257 صفحة، وكان
صدر قبلها لسعود «في البدء... ثُمَّ في البدء أيضاً» عام 1981 و«مشي» عام 1994 و«بعد
خراب الحافلة» عام 2002 و«الطيران على عصا مكنسة» عام 2009 و«1986» عام 2009 أيضاً.
ومع أنّ جميع أجزاء هذه المجموعة «كهفي» مترابطة وتُفضي
إلى بعضها إلّا أنّ إصرار سعود قبيلات في متن المجموعة على عدم تسمية هذا العمل
رواية وتمسُّكه بتسميتها قصصاً قصيرة له ما يبرِّره ويدلُّ على الوعي العميق
بالفارق الجوهريّ بين الرواية كسرد تاريخيّ مُقتطع مِنْ سياق وبين القصَّة القصيرة
كقصيدة أو معزوفة أو حدث منعزل عن السّياق التاريخيّ لسرد الحياة، وإن كان يتقاطع
معها أو يتنافر معها ولكنّه عالمٌ أقرب ما يكون للقصيدة أو المعزوفة الموسيقيَّة
أو الحدث المتفلِّت مِنْ سطوة ثرثرة التاريخ اليوميّة.
بناءُ هذه المجموعة كان بناءً شعريَّاً وتخلَّلته مقاطع
شعريَّة شكَّلت جزءاً مِنْ حركة النصّ المتأرجحة بين عالمين «عالم الأفعى» و«عالم
الكهف»، العالم بتجلِّيه الأفعوانيّ الزائف والكاذب واللاإنسانيّ في مقابل الكهف
الذي يتخلَّص مِنْ سطوة الأفعى وتابعها البليد ومِنْ سطوة التاريخ بتشكُّلاته
البليدة والحيوانيّة والدمويَّة، وفي هذا العمل ينتقل سعود قبيلات مِنْ عالم «بعد
خراب الحافلة» الذي يشير إليه في هذه المجموعة كمدخل أدَّى به للوصول إلى عالمه
الذاتيّ والعقليّ والذي يتحكَّم فيه بالمشهد كبديل لعجزه عن التأثير الفعليّ في
التاريخ الذي تقوده الأفعى وزبانيتها.
سعود قبيلات في هذا العمل يدرك أدقَّ تفاصيل مغامرته
الذهنية ويُحرِّك نصوصه في بناءٍ متنام رومانسيّ أحياناً وتراجيديّ أحياناً
وغرائبيّ أحياناً أخرى، وفي هذه النَّصوص كان سعود وإن حاول تغليف غضبه العميق
وعجزه أمام واقعٍ جبَّارٍ وطاغٍ بلغة الموسيقى والطبيعة والجمال والفنّ الذي وجده
في كهفه، إلّا أنّ اعترافه أخيراً أنّ الصخرة التي احتضنته في كهفه لم تكن إلّا
سعود قبيلات في صورته التي تشكَّلت عبر سلسلة طاغية من القهر والمعاناة والسجن
والهرب والتعذيب والتي أشار في أكثر من موقع أنه يُحاول أن يتخلَّص من سطوة هذه
التجربة المريرة لينطلق إلى أفقٍ آخر والذي قاده إلى «الكهف»، وكأنَّ سعود في هذا
الاختيار القاسي يعلن أنّ هذا العالم للأفعى وزبانيتها وحرَّاسها وليس للإنسان
بقيمه النبيلة وبحثه عن الخير والحقّ والجمال والانسجام مع الطبيعة والتاريخ.
تنقسم هذه المجموعة إلى أربع حركات هي: الحركة الأولى «يوميات
رجل واقف أمام جدار» وتمثِّل صوت فحيح الأفعى ومطاردة هذه الأفعى له في كلِّ
مكان وتمظهرها مرَّةً في شكلِ بقرة ضخمة ومرَّة على شكلِ رأسِ عنز، ومرَّةً
تُطارده بأشكال وصيغ سلطويَّة مختلفة، وللخلاص مِنْ هذه الأفعى يهتدي للكهف الذي
يكون بإيحاءٍ ذي مغزى قريباً مِنْ طفولته في قرية «مليح»، حيث يكتشف في هذا الكهف
عالماً فاتناً بعيداً عن الأفعى ومطارداتها، ويصف في هذه الحركة جمال وانسجام
الطبيعة وإيقاعها الفاتن، حيث يتحوَّل الراوي في هذه الحركة إلى طحلب يلتصق بصخرة
راسخة في النهر الذي يجري وسط الكهف وتحفُّ به الطبيعة بكلِّ جمالها وفتنتها، ولأنّ
هذا الكهف ليس بعيداً عن عين الأفعى فقد وضعت حارساً على باب الكهف في دلالة أنّه
وحتّى في كهفه البعيد ليس بعيداً عن سلطة هذه الأفعى التي تُمثِّل التاريخ الفعليّ
والسلطة الفعليّة في هذا التاريخ، في غيابة الكهفِ يلتقي بسعود قبيلات (سعود صاحب
خراب الحافلة) والذي كان تمثالاً رخاميّاً واقفاً ينتظر، ويتلقَّى بريداً الكترونيّاً
مِنْ ماريَّا وبذلك يهيّئ النصّ لحركته الثانية التي تمثِّل سعود قبيلات حتّى
مرحلة خراب الحافلة.
الحركة الثانية وهي حركة تُعيد ذكريات وحياة وسجن وحبّ
سعود قبيلات الكبير وتحتلّ القسم المُسمَّى في المجموعة «قصص سعود قبيلات»
وتتوزَّع على معزوفات مختلفة هي: أشباح / وتروي قصَّة حبّ كبيرة كان الشِّعر
والموسيقى المكوِّن الأكبر لها وقصَّة عذاب وسجن ومطاردة شكَّلت جانباً مهماً مِنْ
شخصيَّة سعود قبيلات، ثُم «على هامش الغياب» التي شكَّلت جانباً عميقاً لشخصيَّة
سعود ومثَّل هذا الجزء رثاءً انسانيَّاً عالياً بلغةٍ صادقة وشعريَّة وكثيفة وتنبض
بالحبِّ والحياة، ثُمَّ معزوفة «نداء أخير» وهي مقطوعات أقرب ما تكون إلى ومضات
شعريّة عميقة وغرائبيّات كانت تدفع بسعود إلى الجدار.
الحركة الثالثة وبعد تبادل الأدوار وتوضيح المواقف بين
سعود قبيلات القديم والراوي الذي يحمل وجهاً آخر لسعود قبيلات يتحاور ويتناقض
ويتناقش مع صورته الأقدم، ينقلنا النصّ إلى الرجل الطحلب في كهفه وإلى التيه الذي
وجد نفسه فيه والصراع المرير الذي خاضه في هذا التيه مع الأفعى وتابعها البليد
وكيف أخرجه الطفل الذي قاد خطاه في حقل الأشواك بإيحاء ضمنيّ أنّ معظم الحلول
لمسائل الحياة المعقَّدة تجد حلولها في سلوك وبراءة وصدق سلوك الطفل في مواجهة
العالم حتّى لو كان هذا العالم أفعوانيّاً، ويختتم الراوي هذه الحركة بانتصاره على
الأفعى بمقطعٍ نابضٍ بالأسطورة والنصر على سطوة القهر والتاريخ: «ولكن فجأةً راحت
خطواتي تصعدُ درجاً غير مرئي، ولقد كان الأمر بالنسبة لي مربكاً ومدهشاً في
البداية، وكنتُ أتعثَّر في خطواتي الصاعدة، ولكنَّني، مع ذلك، لم أشعر بالخوف أو
القلق، بل رحتُ أواصل الصعود بلا توقف، وسرعان ما اتّسمت خطواتي بالثبات والثقة،
وفي نفسي راح يتفاعل مزيج مِنْ مشاعر الإثارة اللذيذة والاطمئنان والأمل والقوَّة.
خصوصاً عندما نظرتُ ورائي فرأيتُ الأفعى والرجلَ ذا المعطفِ القديم الثقيل واقفين
في الأسفل وقد بديا عاجزين عن الصعود في أثري، وراحا يتابعان صعودي المضطرد
بنظراتهما الحاقدة.. الخ» ص 185.
الحركة الرابعة والأخيرة والتي حملت عنوان «اكتشافات»
وتُمثِّل المصالحة بين سعود قبيلات القديم والراوي الذي يمثِّل مغامرة سعود قبيلات
في الخروج مِنْ عالم الأفعى إلى عالم الكهف كبديل افتراضيّ عن سطوة وقذارة وهمجيَّة
عالم الأفعى والذي اكتشف فيه أنّ الصخرة التي حملته في هذا الكهف وهيّأته له كانت
جسد ورأس سعود قبيلات القديم وخلفه كانت تلك المرأة صاحبة البريد الالكترونيّ
الغامض «ماريا» وأنّه امتدادٌ يتغيَّر ويتطوَّر ولكنّه لا يخلع صورة التجربة
المريرة التي شكَّلت وعيه وشخصيَّته والتي دفعتهما معاً كلٌّ على طريقته للذهاب
إلى الكهف.
في نهاية هذه الحركة يختفي سعود قبيلات وتختفي «ماريَّا»
ويجد الراوي نفسه في مواجهة الواقع: «ووجدتني مِنْ جديدٍ واقفاً أمام الجدار
القديم المرعب نفسه، الذي كان حرَّاسٌ غامضون يلعبون بكرة من الشرائط قد وضعوني
أمامه قبل زمنٍ طويلٍ ثمَّ اختفوا هم أيضاً بلا أثر» ص 257.
من المشاهد ذات الدلالة التصالحيّة والواعية للفرق
العميق بين الايديولوجيا الدينيّة كأداةٍ تُستخدم وتُستغل لأهدافٍ قذرة وبين
البسطاء المؤمنين بها، ذلك المشهد بين الشيوعيّ وبين السلفيّ (التكفير والهجرة)
وهما يلتقيان في زنزانة واحدة والتصالح الانسانيّ بينهما والاحترام الذي برز بين
الطرفين في قصة «ضجيج قديم» والحوار بينهما مِنْ ص 236 إلى ص 239.
كانت لوحة الغلاف مفتاحاً موفقاً وجميلاً للدلالة على
بعض مضامين هذه المجموعة، فالبئر أو البركة الجوفيّة (الكهف) كانت مصدراً للماء
والخصب وأنّ الراوي كان ينشلُ الماء في دلوه الصغير والبسيط ليسقي بستانه العَطِش
واليابس.
في متن النصّ كانت هناك حوارات فلسفيّة عميقة حول الكون
والحياة والدِّين والآلهة والتاريخ الذي يقوده عصابات وانّه لم يبلغ سنّ الرشد بعد
وتخلَّل ذلك رموز ميثولوجيّة يمكن تحليلها (كالبقرة الضخمة ورأس العنز والرجل الذي
يقود خنزيراً بريَّاً قرب حقل الشوك وغرائبيّات بعض المقاطع التي تقترب مِنْ
كوابيس كافكا وسرياليّة سلفادور دالي).
في الختام هذا النصّ نصٌّ إبداعيٌّ مليءٌ بالتناصّات
العميقة مع الحياة والتاريخ والثقافة الانسانيّة وأساطيرها وميثولوجيّاتها ولا
أستطيع في هذه العجالة نقل إيقاعات الغضب والفرح والحزن واليأس والانتصار والهزيمة
والقهر والخوف والأمل والحبّ والبؤس والفقد والظلم والتحدّي والاستسلام، كلّ هذه
المشاعر والأحاسيس التي عزفها سعود قبيلات في مجموعته الباهرة والساحرة «كهفي»،
وكأنَّ هذا الكهف صيغةٌ أخرى لصرخة وكهف مؤنس الرزاز الذي كان يرى «أحياء في
البحر الميِّت» كما رأى سعود جمالاً وصدقاً وتحضُّراً وحياةً في كهفه الذهنيّ
القاسي.
«القدس العربيّ» - 2012-08-31