سعود قبيلات ▣
ثمَّة قطبة أساسيّة، في عقدة الصِّراع بين محور الإمارات
والسعوديّة وبين محور قطر وتركيا، يجري تجاهلها على نطاقٍ واسع؛ ألا وهي ما سُمِّي
بـ«خطّة أوباما» التي تقضي بتسليم عددٍ من الأنظمة العربيّة التّابعة (والمستقلّة
بعد اسقاطها وتتبيعها) إلى «الإخوان المسلمين» كمقاولة من الباطن؛ بحيث يتمّ
الحفاظ على جوهرها التَّبعيّ، لكن مع منحه طابعاً دينيّاً قُدسيّاً والتَّعبير عنه
بخطاب إسلامويّ. وبحيث تصبح تركيا هي المركز الإقليميّ الذي تتبع له هذه الأنظمة
بصيغتها الجديدة وتدور في فلكه.
وهذا جوهر العداء الملحوظ منذ سنوات بين العديد من
الحكّام العرب المرتبطين بالولايات المتّحدة وبين التّحالف المكوَّن من «الإخوان
المسلمين» وقطر وتركيا أردوغان؛ فهم يرون في هذا التّحالف خطراً جدّيّاً يهدِّدهم
برعاية من الحزب الديمقراطيّ الأميركيّ وقسم أساسيّ من المؤسَّسة الحاكمة
الأميركيّة.
جاء دونالد ترامب إلى الحكم، مِنْ خارج المؤسَّسة
الحاكمة التقليديّة.. بنتيجة تفاعلات أساسيّة في الحياة السيّاسيّة الأميركيّة جرت
خلال العقود الأخيرة، فركن هذا المشروع جانباً ولم يبدِ أيَّ تأييدٍ له. الأمر
الذي جعل بعض الحكّام العرب القلقين مِنْ «خطّة أوباما» يرون في ترامب منقذاً، فيتقرَّبون
منه ويسعون بكلّ جهدهم لدعمه وتعزيز موقفه.
وهنا، علينا أن نتذكَّر أنَّ الانشقاق العلنيّ والحادّ بين
قطر (ومحورها) وبين الرّياض والإمارات (ومحورهما) قد انفجر مباشرة بعد أوَّل زيارة
قام بها ترامب إلى المنطقة بعد انتخابه.
ولكن، بينما الحدود مفروزة بدقّة الآن بين المحورين
(الإماراتيّ السعوديّ، مِنْ جهة، والقطريّ التّركيّ، من الجهة الأخرى)؛ فإنَّها
أكثر مرونة بين هذين المحورين كليهما وبين الولايات المتّحدة؛ فعلى سبيل المثال، القطريّون
والأتراك (وخصوصاً الأتراك)، رغم عدم ارتياحهم لترامب وإداراته، إلّا أنَّهم
ينسِّقون مواقفهم معه جيّداً في ليبيا وفي سوريا والعراق. كلّ هذا بينما هم في هذه
الأثناء يراهنون على عودة الحزب الديمقراطيّ إلى دفّة السّلطة.
بالنَّسبة للمحور الإماراتي السّعوديّ؛ فمن الواضح أنَّه
مستعدّ لتقديم كلّ ما يستطيع ويملك مِنْ أجل فوز ترامب في الانتخابات الرئاسيّة مجدَّداً،
والخطوات التّطبيعيّة السعوديّة الإماراتيّة الأخيرة تأتي في هذا السّياق. والأمر
نفسه ينطبق على مصر التي كان الحزب الديمقراطيّ (وخصوصاً أوباما وهيلاري كلينتون)
على عداء واضح للعمليّة التي أطاحت بسلطة «الإخوان» فيها. وهي العمليّة التي
يسمّيها «الإخوان» والحلف المساند لهم بـ«الانقلاب» ويسمِّيها خصومهم بـ«الثّورة»،
بينما هي في الحقيقة ليست انقلاباً ولا ثورة؛ بل انتفاضة شعبيّة واسعة استثمرها
الجيش فسيطر على السّلطة لعدم وجود قوَّة سياسيّة قائدة.
ولكن، إذا كان المحور السّعوديّ الإماراتيّ يخطو الآن خطواتٍ
واسعةً على طريق التّطبيع مع «إسرائيل» لتعزيز فُرَص فوز ترامب، فإنَّ المحور التّركيّ
القطريّ المضادّ له يفعل ذلك مِنْ أجل عيون «إسرائيل» نفسها، وليس مِنْ أجل ترامب.
التطبيع بين قطر وبين «إسرائيل» كان سبَّاقاً للجميع
(باستثناء مصر والسّلطة الفلسطينيّة والنِّظام في الأردنّ)، كما أنَّه لا يزال
مستمرّاً وفي تصاعد.
أمَّا تركيا، فعلاقاتها العسكريّة بـ«إسرائيل» لا تماثلها
علاقاتها بأيّ دولة مِنْ دول المنطقة؛ سواء في ما يتعلَّق بالتدريب أو التعاون في مجال التّصنيع العسكريّ أو التَّسهيلات التي يحظى بها الطَّيران الحربيّ «الإسرائيليّ» في
السَّماء التّركيّة؛ والتَّبادل الاقتصاديّ بين تركيا وبين «إسرائيل» إنَّما هو
أيضاً أكبر مِنْ التّبادل الاقتصاديّ بينها وبين أيّ دولة أخرى في المنطقة؛ حيث تُقارب
قيمته العشرة مليارات دولار. وقد تضاعف التبادل الاقتصاديّ بين «إسرائيل» وبين
تركيا مراراً في عهد أردوغان تحديداً. ومثَّل العام 2014 منعطفاً كبيراً في هذا
المجال، خصوصاً بعد زيارة وفد اقتصاديّ تركيّ كبير (بلغ عدد المشاركين فيه أكثر من
100 مشارك) للقدس المحتلّة؛ حيث بحث هناك في تطوير العلاقات الاقتصاديّة مع الكيان
الصّهيونيّ ووقَّع عدداً من الاتِّفاقيّات المهمّة للتَّعاون في هذا المجال.
(لمزيد من المعلومات، يمكن الرّجوع إلى مقالي «تركيا وهي تفجِّر نبع السَّلام..أين تقف؟»).
وإذا أردنا أن نتكلّم في البديهيّات، فتركيا عضو أساسيّ في
حلف الأطلسيّ؛ بل إنَّ جيشها يُعدّ ثاني أكبر جيش في الحلف بعد جيش الولايات
المتّحدة.
على أيّة حال..
كثيرون، وهم يتتبَّعون التّردّي الجاري في المنطقة
ويتَّخذون المواقف منه، لا يسألون أنفسهم السّؤال الضَّروريّ التَّالي، وهو: لماذا
وصلنا إلى هنا؟ ولماذا حدث هذا ويحدث لنا؟
وصلنا إلى هنا – برأيي – وحدث ما حدث، لأنَّه تمَّ السَّماح
بضرب مراكز الثِّقل العربيّ الأساسيّة، مراكز الاستقلال والاعتماد على الذّات،
التي ترفض مشاريع الاستسلام للعدوّ. وفي مقدِّمتها، بعد تحييد مصر في «كامب ديفيد»:
الجزائر والعراق وسوريا وليبيا والمقاومة اللبنانيّة (حزب الله).
والأسوأ هو أنَّه لم يجرِ السَّماح فقط بضرب هذه
المراكز، بل إنَّ بعض مَنْ يقولون الآن إنَّهم ضدَّ التَّطبيع مع العدوّ
والاستسلام له ساهموا – جنباً إلى جنب مع الولايات المتَّحدة وحلف الأطلسيّ – في
ضرب هذه المراكز خدمةً لـ«إسرائيل».
الجزائر الآن «تمشي الحيط الحيط وتقول يا الله السّلامة»،
وقد جرى تهديدها علناً بـ«الفوضى الخلّاقة» إذا ما فتحت فمها أو حاولت التَّدخّل
في ما يجري حولها.
العراق الآن مقسَّم جغرافيّاً وسياسيّاً؛ جغرافيّاً على
أساس مذهبيّ واثنيّ. وسياسيّاً بانقسام فصائله وأحزابه وتيّاراته على ولاءات
سياسيّة خارجيّة متعدّدة ومتناقضة، وينخره الفساد، ويتخلَّل النّفوذ الأميركيّ و«الإسرائيليّ»
الكثير مِنْ مفاصله الأساسيّة.
وسوريا تداوي جراحها العميقة، وتجتهد لدرء مخاطر التَّقسيم
المعزَّز بالنَّزعات الطائفيّة والمذهبيّة الوافدة، وتسعى إلى الخلاص من الاحتلال
التّركيّ والأميركيّ، وفي أثناء ذلك، تتعرَّض باستمرار لضربات صهيونيّة غاشمة.
أمّا ليبيا، فهي الآن أشلاء موزَّعة بين أتباع الولايات
المتّحدة وحلف الأطلسيّ؛ حيث تساند تركيا الأطلسيّة بمباركة من الولايات المتّحدة
بعض هذه الأشلاء، ويدعم بعض الدّول الأوروبيّة وبعض الدّول العربيَّة التَّابعة أشلاء أخرى. وبالعموم، لم
يعد لهذه البلاد الثَّريّة الواسعة، التي كانت مستقلّة، أيُّ وزنٍ أو حساب في
قضايا المنطقة وشؤونها.
أمّا المقاومة، ومركز ثقلها المقاومة اللبنانيّة (حزب
الله)؛ فالتَّآمر جارٍ عليها على قدمٍ وساق، عربيّاً وأميركيّاً وأطلسيّاً، بل
ولبنانيّاً.. من الفرقاء المحسوبين تاريخيّاً على الولايات المتّحدة و«إسرائيل».
ومعروف أنَّ الحصار الاقتصاديّ للبنان، الذي اشتدّ على نحوٍ غير مسبوق خلال
السّنتين الأخيرتين، غايته الأبعد هي تحطيم القاعدة الاجتماعيّة لهذه المقاومة
وعزلها وحصارها.
ونسأل أيضاً: لماذا وصلنا إلى هنا؟
والجواب هو أنَّ الرأي العامّ العربيّ لم يطوِّر بعد درجة
كافية من الوعي ليفرز صداقاته (وعداواته وخصوماته) الإقليميّة والدَّوليّة بشكلٍ
سليم. وهنا، علينا أن نتذكَّر الحماس الكبير الَّذي جرى تخليقه لخوض حرب الأميركان
والغرب على الاتِّحاد السوفييتيّ في سبعينيّات القرن الماضي إلى أن انهار
الاتِّحاد السوفييتيّ وتسيَّدتْ الولايات المتَّحدة تسيّداً منفرداً ومطلقاً على
العالم، ولم نجنِ مِنْ جرّاء ذلك سوى المهانة والذّل والخسران. ثمَّ جرى تخليق
هستيريا كبرى لتأييد الحرب على يوغسلافيا، إلى أن تمكّن حلف الأطلسيّ مِنْ تحويلها
إلى أشلاء. وبذلك انتهى وجود آخر دولة كبيرة في وسط أوروبا كانت مستقلّة عن حلف
الأطلسيّ وكانت تتعاطف بشكلٍ مبدئيّ ثابت مع القضايا العربيّة. ثمّ، منذ العام
2011 جرت (ولا تزال تجري) عمليّة تدمير سوريا لصالح «إسرائيل» وحلف الأطلسيّ، وجرت
(وتجري) شيطنة المقاومة اللبنانيّة الممثِّلة بحزب الله، وتمّ تحويل إيران إلى «عدوّ
مركزيّ»، بدلاً مِنْ مركزيّة الصِّراع مع «إسرائيل»، وجرى صرف الأنظار بسهولة إلى
الخلافات المذهبيّة بين السّنة وبين الشّيعة وتحويل ذلك إلى صراع محتدم ومركزيّ. وأعتقد
أنَّه من السَّذاجة أن نسأل: من المستفيد بهذا؟
والآن، تتحوَّل الولايات المتَّحدة – كما هو واضح – إلى
التَّركيز على الصّين كعدوٍّ رئيس لها. وفي عزِّ جائحة كورونا، نظَّم «الإخوان
المسلمون» في الأردنّ وقفةً احتجاجيّةً أمام السَّفارة الصّينيّة في عمَّان تحت
الحجج والذَّرائع الإسلامويّة الزَّائفة نفسها.
لا يمكن لمَنْ يقف في خندق واحد مع الولايات المتَّحدة
وحلف الأطلسيّ وأتباعهما، ضدَّ كائنٍ مَنْ كان، أنْ يكون عدوّاً حقيقيّاً لـ«إسرائيل»..
مهما زعم وادَّعى، وسواء أكان قد فعل ذلك عن غفلة وجهل أو عن سابق إصرار وترصّد.
ألف باء فنّ إدارة الصِّراع، هو تحديد الصَّديق والعدوّ
بدقّة، وتمييز التناقض التَّناحري مع العدوّ من التناقض الثانوي مع الجوار
والأصدقاء، وإقامة التّحالفات على أساس الالتقاء الموضوعيّ في المصالح الوطنيّة
والقوميّة. وما لم يرتقِ الوعي الجمعيّ العربيّ إلى هذا المستوى، ويعمّ الشّعور
بالمسؤوليّة الوطنيّة والقوميّة، فستظلّ أحوالنا تتردَّى مِنْ سيِّئٍ إلى أسوأ،
وسنظلّ نخوض معارك أعدائنا بحماس وحميَّة.. لينتصروا ويسجِّلوا أهدافهم القاتلة في مرمانا.