إطلالة..
منذ المجموعة الأولى للقاصّ سعود
قبيلات، الّتي حملت عنوان: «في البدء ثم في البدء أيضاً» مطلع الثَّمانينيّات لم تغب
ظلال السِّجن عن موضوع القَصّ وتداعياته، وهو ما تجلّى في مجموعة «بعد خراب الحافلة»
ومجموعة «1986» ثم مجموعة: «مشي» الَّتي صدرت أوَّل مرَّة عام 1994، وأُعيدت
طباعتها عام 2012.
في مجموعة «مشي» تتشكَّل النُّصوص
وتتوالد وتتراكم وتتراصف معاً في إطار حكاية واحدة تتشابه في المناخات النفسيَّة، ضمن
جملة من «الكولاجات» القصاقيص، وتسجيل «اليوميَّات»، مستفيدةً من ذاكرات السِّجن
في كلِّ تفاصيلها: المعاناة، الأحلام، الأمنيات، المفارقات، الأصدقاء، والهزائم
والأزمنة المنهوبة، ليس للبطل/ الرَّاوي، بل لجيل كامل وحقبة. و«برزت تلك العناصر
التجريبيَّة الَّتي تُكثّفُ خيوط التَّجربة الذاتيَّة ذات الطَّابع السِّيريّ في صورة تأمّلات وخلاصات إنسانيَّة
ونضاليَّة تكشف عن سبل الدِّفاع عن
البطانة الوجدانيَّة للإنسان، فكتب قصصاً مقاوِمة متحديَّة عميقة الدَّلالة، شديدة الكثافة»[1].
القاصّ لا يتحدَّث عن بطولاتٍ ذاتيَّة
أو تاريخ الحياة في السِّجن، أو تفاصيل الألم الَّذي يعاني منه الفرد، وإنَّما يصوِّر
عدداً من المواقف الَّتي تتَّصل بالجانب الإنسانيّ باستعمال تقنيات الحكائيَّة
البسيطة، يمكن وصفه بتقنية «التَّماريات»، أو «التَّقابلات»، وهي نصوص تنقسم إلى موضوع
في صورتين متضادتين، يتحدَّث الأوَّل عن الحلم، بينما يهبط الواقع في النّصف الثَّاني
ليبدِّد الأوَّل.
تأتي النّصوص في غالبيَّة المجموعة
على شكل صور، أو مشاهد، متقابلة، ولكنَّها لا تمثِّل نوعاً من الثنائيَّات الَّتي
تنطوي عليها الحياة، مثل الليل/ النَّهار، الحبّ/ الحقد، بل تمثِّل حالة من الصِّراع،
والضدّيَّات لمعاناة البطل بين فضاء الحلم وثقل الواقع وامتداد الخيال وضيق الحقيقة،
وهو ضيق ينعكس على العبارة الَّتي تتجلَّى باختزالٍ وتجريدٍ يذيب كلَّ الأشكال
والملامح والزَّمن في مشهدٍ تلوينيّ بصريّ ينفتح على الوجدان والعواطف الإنسانيَّة.
فالقصَّة بالنِّسبة للكاتب ليست خطاباً سياسيّا، ولا هي تدوين لتأريخ، وإن كانت
تتضمَّنه، ولكن القصَّة خطاب جماليّ وفنيّ يضارع قطعةَ الموسيقى واللوحة التَّشكيليَّة،
تحمل لغتها وسماتها التجريديَّة، بمعنى تخفِّف النصَّ من الثرثرة والأسماء
والأزمنة والتَّضاريس الَّتي تثقل النصَّ.
في المجموعة الَّتي تبدو كسلسلة من
المشاهد السِّينمائيَّة يظهر البطل/ الرَّاوي كشخصٍ لا يُعرف له اسم، أو مكان أو
زمان، يحاول الكتابة عن مرحلةٍ، أكثر ممَّا يذهب إلى نسج حكاية أو كتابة قصَّة،
فالمجموعة بكليَّاتها هي الحكاية الَّتي تصوِّر مرحلةً زمنيَّةً بقلقها وخوفها
وسكونها وقسوتها.
وهي مرحلة تحكي عن التَّداعيات
النفسيَّة الَّتي تنهال نتيجة القهر، والجمود الَّذي يصيب الكائن نتيجة توقّف الزَّمن
في السِّجن.
«في السِّجن كنت أتمنَّى أن أمشي
باستقامة لمسافة طويلة من دون أن يعترضني جدار، اكتشفت أنَّ ثمَّة أمنيات بسيطة
مهمَّة: أن أجلس مع عائلتي ونتحدَّث بأمور عاديَّة، أن أركب السَّرفيس مع ركابٍ لا
أعرفهم ويتحدَّثوا في مواضيع لا تهمّني، أن أسمع، أشياء صغيرة وبسيطة من هذا
النوع، اكتشفتُ أنَّها هي الحياة».[2]
هذه
اللحظات يتجادل فيها البناء الفنيّ والجماليّ والنَّفسيّ، بين درجات الوعي وأزمنته،
وتختلف فيها الاستعادات، الذِّكريات بين وقت الكتابة والتَّلقي، وتختلف وسائل التَّعبير
بين التَّأريخ والتَّدوين السِّيريّ (من السِّيرة)، للتَّعبير عن الحالة ببلاغة
الاختزال والتَّكثيف والمفارقة والصّورة، فالمجموعة تصوِّر مشاهداتٍ تُستعاد من
الذَّاكرة الَّتي تنسى التَّفاصيل الذَّاتيَّة، أو تتناساها، للتَّوقّف، أو للذِّهاب
إلى اللحظة الإنسانيّة الَّتي تصادر الزَّمن الذَّاتيّ، وتعيده في مشهدٍ أو إضاءةٍ
سريعة وخافتة تغيب فيها ملامح «الأنا» وصفاته لمصلحة «الكلّ»، وتتماهى مع لغة الصّورة،
وسمات العصر الَّذي تتسيَّده جماليَّات الصّورة، وبلاغة الموقف وتضادَّاته.
«السِّجن
ليس لحظة عابرة في حياة الإنسان، وليس مجرَّد مكان سكن لفترة من الزَّمن أو مشوار
ما، السِّجن حالة خاصَّة جدّاً مثل الحرب، والإنسان إذا دخل الحرب يخرج بتجربة ربَّما
يُمضي حياته كلَّها وهو يتحدَّث عنها مِنْ دون أن يستنفذها كذلك الأمر بالنِّسبة
للسِّجن».[3]
في مثل تلك المرويَّات يسعى البطل
للخروج من اللحظات «الشخصية» الجامدة والمنهوبة للإقامة في منطقة الحلم المتخيّل
كبديل للواقع المفقود أو الضَّائع أو المغتصَب، وهي المنطقة الَّتي تمنح الكاتب «سلطة»
تحويل المكان إلى زمان، أو الزَّمان إلى مكان، بمعنى ضخّ الحركة في السَّاكن،
وتعطيل المتحرِّك. كما تمنحه فرصة تحويل المكان والزَّمان إلى فضاء حكائيّ وليس
تسجيليّ. فالفكرة الأساسيَّة في المجموعة، «الرِّحلة الوجوديَّة» فكرة «المشي»،
الحركة، مقابل توقّف الزَّمن قسراً، ومِنْ هنا فقد نجح القاصّ شكلانيّاً في اقتراح
وسيلة القصّ الَّتي تحافظ على تسلسل الزَّمن وتَتَابعِه من خلال تقنية «الكولاج»، ومن
خلال الانتقال من الحكي إلى «المشهد/ الصّورة» ومن المقابلات «التماريات» الَّتي تُظهِر
الصورتين في آن معاً لكسر الزَّمن.
نصف الحكاية
ينطلق القاصّ في المجموعة من فكرة
فلسفيَّة تقول: إنَّ الاكتمال يعني الجمود والموت، ومن هنا جاء العنوان ليؤكِّد
نقص النَّصّ بما هو تعبير عن الزمن، ويؤكّد أنَّ المعنى يكتمل بشقّه الضّدّيّ، في اللامعنى
أيضاً، وأنَّ السّكون هو الوضع الَّذي يسبق الحركة، وتظهر تلك الجدليّة في الإهداء
الَّذي حمل عنوان: «إلى جدّي»، وهو لا يشكِّل مقدِّمة اعتباطيَّة للنّصوص، بل يتضمّنها
جميعاً بامتداد العنوان والفكرة والموضوع.
فالجَدُّ هو الماضي والتُّراث والزَّمن
والحقيقة والسّؤال والأسطورة، وإنَّ الموت لا يمثِّل نهاية المطاف، بل يتجدَّد في
تواصل الفكرة واستمرارها، وأنَّ غيابه هو نصف الحكاية، ونصف الصّورة، ونصف الرّحلة.
يُقدِّم الكاتب مجموعته بإهداء لجدّه،
يقول:[4]
«(...)
جدّي الَّذي منذ عرفته وهو يمشي..
جدّي الَّذي هوى فجأة، مسلماً نبضه
لشرايين الأرض، أمَّنا الحنون..
فقال النَّاس: لقد استراح أخيراً..
استراح إلى الأبد..
ولم أدرِ لِمَ قالوا ذلك وهو لا
يزال يمشي». (ص7)
العنوان المعنى..
يستعيد القاصّ في نحو خمسة وثلاثين
نصّاً، وتسعٍ وسبعين صفحة تلك اللحظات التي دجَّجت الذَّاكرة بعددٍ من الحكايات،
في مشاهد قصيرة أو لقطات سريعة، بـ«أكل نصف الحكاية»، الَّذي يعني من ناحية إهمال
الزَّمن أو نسيانه لِما ينطوي على تكرار مملّ، ومن ناحية أخرى وسيلة لإنكار زمنٍ
لا يريد الرَّاوي الاعتراف به. فهو يريد إعادة تشكيل البداية والنِّهاية وفق الرَّاهن
الَّذي هو راهنه، وحتَّى لو لم يتسنَّى له إغلاق النِّهاية، فهو يلجأ إلى إبقائها
مشرعة كنصٍّ مفتوح، لأنَّه يريد «قتل» الزَّمن الميِّت فيها.
يمثِّل العنوان ركناً أساسيّاً،
وجزءاً مهمّاً في البناء، فهو النَّافذة والعتبة الَّتي يلج منها القارئ إلى النّصّ،
وهي الفرضيَّة الصّفريّة بمنطق الرياضيّات، الَّتي تؤكِّد المعنى أو تنفيه، ويبلغ
العنوان من الأهميَّة أنَّ غيابه يمكن أن يربك مغزى القصّة.
ويمثل العنوان «مشي» نقطة مركزيّة
في المجموعة، فهو يمثِّل المعنى الَّذي يريده «الرَّاوي» بتوحّد المجموعة عضويّاً
ونفسيّاً وفنيّاً بوصلات تجتمع في نوع من البحث الوجوديّ لمعنى الحياة الَّتي لا
يتوقَّف فيها الكائن عن المسَّير، وخلال ذلك تبرز الكثير من الأسئلة عن المعنى واللامعنى
الَّذي تنطوي عليه فكرة الحياة.
وبالكيفيَّة الَّتي تُبنى فيها النّصوص،
مكثَّفة ومختزلة، فإنَّ غالبيَّة عناوينها تأتي مفردة «نكرة»، دون تعريف، لإطلاق
الفعل برمزيَّة الواقعة، وتحييد الذَّاتي بإشباع الحكاية بالموقف الإنسانيّ.
غياب الشّخوص حضور الفكرة
في النّصوص الَّتي تشتمل عليها
المجموعة لا توجد شخوص أو أزمان أو أماكن، ثمَّة متكلِّم بضمير الغائب، في فضاءٍ
قصصيٍّ مفتوح، وزمنٍ «محروق»، لا يتجاوز لحظة الحلم، حكايات تعبِّر أو تَعبُر إلى
مواقف سريعة وبسيطة، لكنَّها مليئة بالرمزيَّة التي لا تتوقَّف عند التَّفاصيل
الكثيرة، بل تريد الوصول إلى المعنى. تمثِّل رحلة المعاناة واللاجدوى واللايقين
بين زمنين وليس زمانين، يتجادل فيهما الفعل وضدّه.
تُستهل في غالبها بنمط الروي التّراثي
«كان» الَّذي يمنح الحكاية ظلالها الأسطوريَّة وعمقها في الزَّمن، وانتسابها للنصّ
الأوَّل، وتلجأ إلى استعادة وسائل الروي «الشعبيّ» بالإضمار، بمعنى استعارة
التقنية دون الإشارة إليها، ففي كثيرٍ من النّصوص يتمّ قطع السَّرد واختزال التَّفاصيل
للوصول إلى المغزى، وهي تتكرَّر في الحكايات الشعبيَّة حينما يقول الرَّاوي:
"ويش بدَّك بطول السَّالفة" ليختزل الزَّمن الَّذي يعتبره عبئاً على
النصّ والذَّات، وهي وسيلة تركن إلى وعي المتلقِّي، وتشاركه في الخبرات وتمنح
المتلقّي «ملكية» النَّص باعتباره جزءاً منه وجزءاً من معاشه، وهو ما يمنح النَّصّ
خصوصيَّته «الشَّعبيَّة» وسماتها.
نبوءة النَّصّ
ينقسم عالم القصّ/ النَّصّ في
المجموعة في الطَّبعة الثانية بين الزَّمن الدَّاخليّ المحاصر، والخارجيّ الوهميّ،
أو الماضي الحنينيّ والمستقبل المغلق الَّذي يقيم على حافَّة الهاوية.
من هنا يمكن فهم النّصوص، بوصفها
تنطوي على نبوءة، فهي تنتمي في خطابها إلى الرّسائل، والتَّلميح دون التَّصريح
والرّموز والإشارات، وتقترب من مناخات السَّرد «الشِّفاهي» الَّذي لا يقف عند
المتعة، بل يذهب إلى العبرة. فالمجموعة تنظر إلى المشي بالمعنى الفلسفيّ والصوفيّ
التَّأملي، بما ينطوي على معنى الخلاص. فالمشي ضدّ السّكون بما هو حركة تشير
للحياة أو إثبات الحياة، ووسيلة المعرفة والعناد في مواجهة الاستسلام، وعبور إلى
الزَّمان من خلال المكان، هو اللا إقامة، والتَّمرد والتوالد. ففي المشي معنى
القدريّة:
«مشيناها خُطىً كُتِبَت علينا
ومن كُتِبَت عليه خطىً مشاها»
كما يحتمل الـ«مشي» أيضاً على درس
الجماعة الفلسفيّة اليونانيّة القديمة ذات النَّزعة الطَّبيعيّة في المعرفة (المشّاؤون)،
وهو اتِّجاه فلسفيّ سار أصحابه على نهج فلسفة أرسطو، وعُرفوا باسم المشّائين، لأنَّ أرسطو، والمشائىّ رمز إلى
الممشى أو الرّواق، ومنها «الرّواقيون» الَّذين كانوا يقيمون مقولاتهم على الجدل،
فالمشي ليس وسيلة بحدِّ ذاتها، بل أداة، ومن هنا جاء العنوان ليمثِّل أداة، وهو في
صيغة الجواب على سؤال مضمر.
ويحمل معنى «تلازم ثقل الماضي»،
حيث يذكر القاصّ في لقاءٍ مع قناة الجزيرة كلمات للشَّاعر محمّد الماغوط: (إنَّني أحمل السِّجن
على ظهري مثل ماكيت مجسم) ليؤكد أنَّ التَّجربة
تشير إلى أنَّ الإنسان الَّذي تعرَّض لتجربة السِّجن يبقى حتَّى بعد زمنٍ يتصرَّف
كسجينٍ سابق.
هذا الثّقل لا ينبع من الماضي،
وحياة السِّجن فحسب، بل من الصّراع الَّذي يستوطن داخل الشَّخص، بما يراه في
الحاضر، والأسئلة الَّتي تتساقط فوق رأسه «بعد خراب الحافلة»*، وبعد تحوّل الكائن
إلى مشروع ساحر أو مجنون، يفكر بـ«الطَّيران على عصا مكنسة»**، فالرَّاهن يطحن
الإنسان بمسنَّنات الحياة التي قُيِّدت بـ«أنظمة» السّلطة القهريّة وتتجلَّى في كلّ
الأركان الَّتي تحيط به، ولا يجد مناصاً من الاستسلام ولو على سبيل «الرَّاحة»
والعزلة أو الخروج من «نظام الضَّبط» ليُتَّهم بـ«العبث والعدميَّة والانعزاليَّة».
«لم يحلّل "فوكو" السّلطة
بصورة مجرَّدة ولا انطلاقا من معقوليَّتها، أو ضروراتها الداخليّة، إنّما من حيث انعكاساتها على
المجتمع، وهي انعكاسات تتّخذ
صورة المقاومة الَّتي تتشكَّل من خلال القوى الفعليَّة ممّا ينجرّ عنه تصادم الاستراتيجيّات. وتكتسب
الذَّات من خلال عمليَّة المقاومة ضدَّ القهر والقمع معنى الخضوع والتّبعيّة لنظام الضَّبط».[5]
الحركة مقابل السّكون
في المجموعة القصصيّة يتجاوز
القاصّ المسألة الشَّكلانيّة لـ«المشي» بالانتقال من استيعاب الطَّبيعة/ الواقع
إلى التّمرّد عليه، وإعادة تشكيله بجدل الحركة/ المشي، الدَّاخل الخارج. فالمشي هو
«التَّواصل» للتَّغلّب على مفقود الزَّمن، والحركة مقابل السّكون والتّمرّد في
مقابل الاستسلام. جاءت المعالجة وفق عدد من التقنيات الّتي تقوم على بناء المقولات
القصصيّة الَّتي تتمثَّل في:
- جماليَّات البداية النِّهاية
عرَّف فوكو السِّجن بأنَّه:
«إطلاق قدرة النِّظام على التَّصرّف
في حريّة الشَّخص ووقته...، يمتلك طاقاته المادّيّة والمعنوية».[6]
تقوم غالبيّة قصص
المجموعة على أحكام الاستهلال والبداية، الَّتي تبدو بسيطة، وخافتة، وعميقة، ثمَّ
تتصاعد دراميّاً بإشارات نفسيَّة، وسياقات إنسانيَّة تعبِّر عن وحدة الإنسان ومَلَلَه،
وتنتقل من الحالة المتوقَّعة بصدمة المفارقة.
فالضَّحيَّة السَّجين
يتحوَّل في السِّجن إلى جلَّاد حينما يمسك بالعصفور ويضعه في القفص، ولكن وحدته ومَلَلَه
ورغبته في كسر جمود الزَّمن والصَّمت دَفَعَهُ لسلوك ما يعاني منه. فالبداية لم
تكن تحتمل الموقف الدراميّ، ولكن الاستدعاءات النفسيّة والاجتماعيّة قلبت الموقف.
من قصَّة «سجن»[7]
«السَّجين الَّذي كان قد مضى علية زمنٌ
طويل في السِّجن، عبر إلى زنزانته- ذات مساء - عصفور صغير، قام إليه، احتضنه بيدين
حانيتين، ودفَّأه بأنفاس حرَّى، ثمّ صنع له قفصاً». (ص 23).
- جماليَّات التَّماري
«في السِّجن اكتشفتُ أنَّ الحياة
هي التَّفاصيل الَّتي بالعادة نهرب منها ونعتبرها ليست مهمّة».[8]
تسيطر على الإنسان في السِّجن حالتان
متضادَّتان، ومتصارعتان، وملتبستان، تختلط فيهما الحقيقة مع الخيال، ففي الوحدة
والعزلة يرتدّ الكائن إلى داخله، ويرتدّ الزَّمن إلى الماضي، فتنهال الذِّكريات،
ويتَّسع مدى الوهم. وفي ظلِّ فقدان الزَّمن تتبادل الصّور وظيفتهما بين الدَّاخل
والخارج، النَّفسيّ والموضوعيّ. ويمثِّل الدَّاخليّ صورة مركَّبة بين الدَّاخليّ
النَّفسيّ والدَّاخليّ المحيط، كما يمثِّل الخارجيّ صورة مركَّبة بين الموضوعيّ
والبيئة المحيطة، فالوحدة تحمل السَّجين إلى مرافئ ما وراء الأسوار، وتحمل الدَّاخليّ
النَّفسيّ إلى الذّكريات والمتخيّل، لكنّها بأقلّ المثيرات تتحطّم أمام الواقع.
ومن قصّة «نبض»[9]
«مدفأة، وفراش وثير، وامرأة جميلة
متمدّدة إلى جانبه، تضع حبَّات الكستناء على صفيح المدفأة، يقشِّران الحبَّات
الناضجة، وفي خلفيَّة تفكيرهما شعور بمتعة الدفء....
تناهى إليه صوتُ حذاءٍ ثقيل، وفجأة،
تلاشت المدفأة، والفراش الوثير، والمرأة الجميلة، وحلَّ بدلاً منها جميعاً (برش)
وصقيع وقضبان يقف خلفها، متأهِّباً، شرطيٌّ بحذاءٍ تقيل». (ص 19)
- فقدان الزَّمن
في السِّجن لا ينقطع الإنسان عن
المجتمع، بل يفقد الكلام والصَّوت ومجسَّات التَّلقي وعتبات الحواسّ، ويفقد الزَّمن
الَّذي يمنح الكائن دورة الحياة، ويمكن أن يودِّي إلى الجنون، وكذلك يفقد الكائن الإطار
الَّذي يحضن الإيقاع، وهو المكان.
هذه التَّجربة في دراسات نفسيَّة
اجتماعيَّة لم تؤدِّ إلى الجنون، بل أفقدت الكائنات مقدرتها على التَّواصل
والمعرفة.
والسُّلطة عندما تمنح نفسها مشروعيَّة
«العقاب» فهي تسيطر على الزَّمن وتسلب الكائن دليل الحياة، الزَّمن الَّذي يعني
الموت، ومن هنا يبدو الزَّمن/ الحركة الـ«مشي» معادلاً موضوعيّاً ونفسيّاً لمقاومة
السّكون وفقدان المعرفة بمنهج «المشَّائين» الذي اختاره القاصّ عنواناً للمجوعة.
وينطلق البطل/ الرَّاوي في كثيرٍ
من النّصوص للبحث بذريعة إيجاد المرأة/ الفكرة، دون أن تكون هي الغاية، بل وسيلة
لـ«المشي»، مقاومة الجمود والسّكون، وفي نصٍّ آخر، «ليست هي» يجيب عن المعنى الَّذي
يرمي إليه، بنكران المرأة الَّتي انتظرته، وفي «بحث» يواصل البحث، حتَّى حينما
يقولون له إنَّها ماتت منذ سنوات، وفي قصة مثابرة[10]، يقول:
«كان البرد قارساً، والرّيح عاتية،
والمطر غزيراً..
فقالوا لي إلى أين في هذا الطَّقس
القاسي؟
قلت: أريد أن أبحث عنها.
قالوا: ألن تكف عن هذا؟! إنَّك حتَّى
لا تعرف من هي؟
ولم أقل شيئاً؛ إذ كنتُ قد خرجت
بالفعل». (ص
61)
يربط فوكو بين السِّجن والجنس
والجنون، وفي غالبيَّة قصص سعود قبيلات في مجموعة «مشي»، ترتبط المفردات الثَّلاث
بحبلٍ سرّيّ: المرأة برمزيّة البحث، والسِّجن كمضارع للموت ووسيلة للمقاومة،
والجنون في صور فنتازيَّة وغرائبيَّة ولامعقولة، وكأنَّها تطبيقات لمقولات ميشيل
فوكو الماديّة لمفهوم السِّجن وعلاقته بـ«السّلطة» ومظاهرها، وانعكاساتها على
الفرد والمجتمع.
«يكشف ميشيل فوكو عن الدَّور الَّذي
لعبته الرَّأسماليَّة في بناء
السّلطة البيولوجيّة، والتكنولوجيا السياسيّة للحياة، وبلورة تمثّل جديد عن الجسد»[11].
في المجموعة القصصيَّة حاول قبيلات
أن يفسِّر ظاهرة السِّجن وانعكاساتها النفسيَّة، «وكيف تحوَّلت مسألة السِّجن إلى رهان فلسفيّ»، بحسب
فوكو، وهو الرِّهان نفسه الَّذي رأى فيه القاصّ وسيلة للتَّنبّؤ للحراك الاجتماعيّ
في تحوّلاته من السّكون إلى الحركة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
[1] «قبيلات
يتمرَّد على الشَّكل والمضمون تجريبيّاً»، د. محمّد عبيد الله، الرَّأي الأردنيَّة،
الثّلاثاء 2010.
[2] مقابلة
مع قناة الجزيرة الفضائية.
[3] مقابلة
مع قناة الجزية الفضائية.
[4] سعود
قبيلات «مشي» دار ورد، للنشر والتوزيع، عمّان، الطبعة الثانية، (ص7).
[5] من
الحفل التَّعذيبيّ إلى ولادة السِّجن 29 أيَّار
(مايو) ٢٠١٠ بقلم لعروسي
لسمر ديوان العرب.
[6] عزَّة
مازن، «فرج بين الرِّواية والتَّاريخ لرضوى عاشور»، مجلَّة
الإذاعة والتّلفزيون، «الشَّارع الثَّقافيّ» مصر، القاهرة، 2009.
[7] سعود قبيلات
«مشي» دار ورد، للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الثانية، (ص23).
[8] مقابلة
مع قناة الجزيرة الفضائية.
[9] سعود
قبيلات «مشي» دار ورد، للنَّشر والتَّوزيع، عمَّان، الطَّبعة الثَّانية، (ص19).
[10] سعود
قبيلات «مشي»، (ص61).
[11] صحيفة
أوان، الخميس 26 تموز (يوليو) 2012.