سعود قبيلات ▣
بعض
مَنْ تبقّوا بعد الكارثة..
«أسير
في شوارع معتمة، فلا أصادف سوى أشباح غامضة تسير برتابة وذهول، ولا يلوي أيٌّ منها
عنقه باتِّجاه الآخرين أو تنظر عيناه فـي عيونهم، وأحياناً يتمتم بعضهم بكلماتٍ
غامضة، فلا يفهم أيٌّ منهم ما يقول الآخر، ولكأنَّ هذا ليس بالشَّيء المهمّ!
يهزُّون رؤوسهم لإعطاء انطباع َّ زائفٍ بالإصغاء ويواصلون المشي..
إنَّهم
بعض مَنْ تبقَّى بعد الكارثة الكبرى.. تلك الَّتي لا أدري متى وقعتْ ولا ما هي
بالضَّبط.. هل كانت طاعوناً؟ أم زلزالاً؟ أم حرباً ً طاحنة؟
لا
أدري.
أشعر
أحياناً َّ بأنّهم يتواطؤون جميعاً بالصَّمت على ما جرى لهم وعلى ما ينتظرهم عند
هذا المنعطف أو ذاك».
(مِنْ
كتابي «كهفي» الصَّادر في العام 2012)
غريب..
«لستُ مِنْ هنا..
وفي هذه المدينة، لا أعرف أحداً ولا مكاناً..
أسير في شوارع أجهلها،
فأقابل غرباء؛ أسألهم عمّا لا أدري.
غير أنّي لا أسمع إلاّ كلاماً غامضاً.
وأفكِّر، حائراً، في ما حدث، فيدهمني الفزع؛
كنتُ وأصدقائي نلهو ونمرح ونركض، تكاد لا تلمس الأرضَ
أرجلُنا.. وتقفز عيوننا من مشهدٍ إلى مشهدٍ..
حتّى تكاد لا ترى.
ومِنْ دون قصدٍ أو اتِّفاق، وجدنا أنفسنا هنا..
قلنا: نجلس قليلاً..
ورحنا نحاولُ التقاطَ أنفاسنا.
وفجأة، اكتشفنا أنّنا أضعنا شيئاً أثناء ركضنا..
وبينما نحن نبحث عنه محمومين، أغمضتُ عينيَّ وفتحتهما..
ولكن..
يا إلهي! لم أجد
أصدقائي!».
(مِنْ كتابي «مشي» الصادر في العام 1994)
إيقاع!
«...
ثمَّ جلستُ على حافَّة شرفة المغارة المعلَّقة في وسط الطَّود، ورحتُ أنظر إلى
الوادي الجافّ الممتدّ في الأسفل؛ مع أنَّه لم يكن ثمَّة شيء فيه يستحقّ النَّظر.
بعد ذلك رحتُ أفكِّر في الإيقاع الهائل الَّذي كان يملأ رأسي قبل زمنٍ طويل؛ كنتُ
أسمِّيه، في ما مضى، الإيقاعَ الصَّاخبَ، أحياناً، والإيقاعَ السَّريعَ، أحياناً
أخرى. ولكن، في تلك اللحظة بينما أنا أنظر إلى الوادي الجافّ في الأسفل، خطر لي
أنْ أسمِّيه الإيقاعَ الحيويَّ.
كان
الضَّجيج في ذلك الزَّمن القديم، أعني زمنَ الإيقاع، يهزّ أركان رأسي باستمرار،
وكنتُ أتوق إلى لحظة هدوء، وفجأة هدأ كلُّ شيء؛ في الواقع لم يهدأ شيء وإنَّما
الإيقاع فقط هو الَّذي توقَّف. فجأة لم يعد هناك إيقاع بالمرَّة. فهل كان هذا
أفضل؟ لا أدري؛ كلّ ما أدريه هو أنَّني الآن أحنُّ إلى الإيقاع.»
(مِنْ
كتابي «كهفي»)
نافذة..
«صحوت، عند منتصف الليل، شاعراً بالاختناق وبثقلٍ يضغط على
صدري؛ فمضيت إلى النَّافذة، فتحتها، وعُدْتُ إلى النَّوم.
غير أنَّه لم يمضِ وقتٌ طويل عندما اضطررتُ للاستيقاظ،
مرَّةً أخرى، للسَّبب نفسه.
فارتديت ملابسي، وخرجتُ إلى الشَّارع. ولكن، يا للمفاجأة!
المدينة كلُّها (مِنْ فوق ومِنْ كلِّ الجهات) خيَّم
عليها ستارٌ كثيف؛ والنَّاس، جميعاً، خرجوا إلى الشَّوارع يبحثون عن نافذة ما».
(مِنْ «مشي»)
تداعيات
الغياب..
«...
أوقفوني، في نهاية الأمر، أمام جدارٍ بشعٍ ملطِّخٍ بالدِّماء، فأسندتُ ظهري إليه. وعندئذٍ،
عاودني الشّعور الباهظ بالظّلم واليأس، ورحتُ أفكِّر في أنَّني بعد قليل لن أكون
موجوداً؛ لن أشعر بنفسي وبما حولي، ولن أفكِّر، ولن أعي وجودي ووجود هذا الكون
العظيم الَّذي أنا جزءٌ منه. باختصار؛ سأكفُّ عن كوني تمثيلاً للمادّة في أرقى
تجلِّياتها؛ بالأحرى، ستكفُّ المادَّة عن وعي ذاتها مِنْ خلالي. فشعرتُ بحزنٍ مريع
لأنَّ هذا الدَّور العظيم الَّذي أنيط بي خلال وجودي في الحياة قد شارف على
الانتهاء».
(مِنْ «كهفي»)
مأساة..
«إنّنا نركض، منذ الصَّباح الباكر؛ ترانا – على مدِّ النَّظر
– جموعاً هائلةً تمضي باتِّجاهٍ واحد.
قال الَّذي يركض بجانبي وهو يلهث:
-
فقط لو يُتاح لنا أن نلتقط أنفاسنا.
هززت رأسي موافقاً وأنا أواصل الرَّكض.
لكنَّه أضاف حزيناً:
-
حتَّى أنّنا لا نعرف لماذا نركض، ولا حتَّى إلى أين؟
لم أقل شيئاً.
فأردف، بعد صمتٍ قصير:
-
هل تعرف أنت؟
ولم أقل شيئاً؛ غير أنَّ الَّذي يليه من الجهة الأخرى ربَّتَ
على كتفه، وهما يركضان، وقال له ناصحاً:
-
اركضْ.. اركضْ فقط.. ولا تتعب رأسك بهذه الأسئلة العقيمة.
وللحقّ، كنتُ أفكِّر في الأمر نفسه، وإنْ لم أصرِّح به،
عندما رأينا الصَّفَّ الأوَّل منّا يهوي إلى حفرةٍ بلا قرار».
(مِنْ «مشي»)
موت..
«مات رجلٌ موتاً طويلاً؛ حتَّى لقد تملَّكته الرَّغبة في
العودة إلى الحياة..
فخلع أكفانه ولبس أثواب الحياة وعاد؛
غير أنَّه بحث عن امرأته، فلم يجدها،
وعن أصدقائه، فلم يجدهم..
ولم يجد الشَّوارع الَّتي طالما حفيت عليها أقدامه..
لم يجد قبضته..
لم يجد صوته..
فانثنى إلى نفسه لكنَّه – يا ليأسه - حتَّى بعدما أعياه
البحث عنها، لم يجدها..
حينها، مضى نحو أصداف البحر، يستعير واحدةً منها إلى أن
ينتهي العراء».
(مِنْ «مشي»)
معرفة..
«...
مع مرور الزمن، عرف هذا الشَّيء، المحبوس فـي صَدَفَة مغلقة، الكثير من الأشياء
الغريبة. منها، على سبيل المثال، أنَّ بعض الأماكن الضِّيِّقة المحكمة الإغلاق قد
يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا
فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة؛
وأنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من
الأصوات؛ وأنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد
تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل».
(مِنْ
كتابي «كهفي»)
مكنونات..
«تُرى
هل يأتي يومٌ تفصحُ فيه هذه الصَّدَفَة الملقاة على جانب الطَّريق عن مكنونها؟ أم
أنَّها ستمضي إلى التَّلاشي وهي خرساء؟
لكن
لمن تفصح؟
ولماذا؟
هل
قال لنا الكون لماذا حدث انفجاره العظيم قبل مليارات السِّنين؟
وهل
قالت لنا الأشياء لماذا تتمدَّد بالحرارة وتتقلَّص بالبرودة؟ أو لماذا تجذب
الجاذبيَّة الأجسام؟
هل
يقول لنا العصفور لماذا يغرِّد؟
هل
تقول لنا الأزهار لماذا تبوح بعطرها؟
هل
تقول لنا الفوتونات لماذا تحيل العتمة إلى ضوء؟
إذاً،
لماذا على صَدَفَة مجهريَّة تافهة، ملقاة في بقعة صغيرة جدّاً مِنْ شظيَّةٍ لا تُذكر
مِنْ شظايا الانفجار الكونيّ العظيم.. أنْ تفصح عن ما تظنُّه عظيماً مِنْ سرِّها
الصغير؟».
(مِنْ
«كهفي»).
الضَّغط
على الجُرح
«وقال لي: صاحبك – يقصد كافكا – يسخر بصورة
مبطَّنة.
قلتُ: بل بصورة قاسية. إنَّ ذلك أشبه بأنْ تضغط بقوَّة
على جرحك المفتوح إلى أنْ يتجاوز إحساسك بالألم حدود قدرتك على الإحساس، بدلاً
مِنْ أنْ تكتفي بالتلوِّي والصّراخ مِنْ دون جدوى. أو ربَّما كان ذلك أشبه بأنْ
تحدِّق متحدِّياً في عينيْ وحشٍ رهيب بينما هو يوشك أنْ ينقضَّ عليك ويفترسك».
(مِنْ كتابي «الطَّيران على عصا مكنسة»)
ضياع..
«ضاع الطِّفل في حقل قمح. كان المدى حوله أخضر،
وكانت السَّنابل تتمايل فوق رأسه، والجنادب تتقافز أمامه، والفراشات تهوّم
بألوانها الزَّاهية، والعصافير تطير فجأة قبل خطوته التَّالية، والشَّمس ينعكس
شعاعها من على اخضرار الزَّرع..
مرَّت سنوات وسنوات، أصبح الطِّفل كهلاً، فذبلت سنابله
الخضر. وعندما عاد، ذات يوم، إلى الحقل، امتلأت نفسه بالحسرة؛ لأنَّه،
عبثاً، حاول أن يضيع فيه مرَّة أخرى».
(مِنْ «مشي»)
انحناء..
«سار الصَّغير في الحقل، فراحت سنابل القمح تتمايل فوق
رأسه، حتّى أنّه عندما أراد أن يداعبها رفع يديه قليلاً إلى الأعلى.
مرَّت سنوات وسنوات، أصبح الصَّغير كهلاً، وعندما سار في
الحقل مِنْ جديد وأراد أنْ يداعب السَّنابل، توجَّب عليه أنْ ينحني».
(مِنْ «مشي»)
دهشة..
«وقف الصَّغير فوق الرَّبوة المطلّة على الطَّريق،
فاندهش وهو يرى السَّيارات تبزغ فجأة مِنْ عند المنحنى، كما لو أنّه يقذفها، لتغيب
فجأة في المنحدر كما لو أنّه يبتلعها.
مرَّت سنوات وسنوات، أصبح الصَّغير كهلاً، وعندما جلس
فوق الرَّبوة مرَّة أخرى، لم ينظر إلى السَّيَّارات وهي تظهر وتختفي، بل إنَّه،
عبثاً، راح يحاول العثور على دهشته التي غيَّبها منحدرٌ ما».
(مِنْ «مشي»)
سجن..
«السَّجين الَّذي كان قد مضى عليه زمنٌ طويلٌ في السِّجن،
عَبَرَ إلى زنزانته ـــ ذات مساء ـــ عصفورٌ صغيرٌ جميل، لائذاً بها مِنْ زمهرير
الشِّتاء أو ربّما مِنْ مخالب طيرٍ جارح..
عندئذٍ، قام إليه، اِحتَضَنَه بيدين حانيتين، ودفَّأه بأنفاسٍ
حرّى، ثم صنع له قفصاً».
(مِنْ «مشي»)
آنذاك تعلَّمتُ الحياة..
«قلتُ لروزا (لكسمبورغ): أنتِ تفكِّرين وتشعرين
وتتصرَّفين هكذا لأنَّكِ قادمة مباشرة مِنْ سجنك في قلعة فرونكه في ألمانيا. ولقد
ذكَّرتِنِي بما كنتُ أشعر به عندما كنتُ في سجن المحطَّة؛ كنتُ آنذاك أفكِّر
دائماً بتحقيق رغبات بسيطة؛ مثل أن يُتاح لي السير بخطّ مستقيم لمسافة طويلة مِنْ
دون أن يعترض طريقي جدار. ومثل أن أركب سيَّارة أجرة عاديَّة مع أشخاص لا أعرفهم؛
فيتحدَّثون بأمور لا تهمُّني. ومثل أن أمشي في شارع مكتظ بالناس بلا هدف ولا مقصد.
أو أن أجلس مع أسرتي ونتحدَّث في مواضيع غير مهمَّة.. وأشياء أخرى كثيرة مِنْ هذا
القبيل.
قالت: ربَّما؛ فالإنسان في السِّجن يحنُّ للحياة
العاديَّة الأليفة والرَّتيبة.
قلت: قد يبدو هذا غريباً، لكنَّني، حقيقة، تعلَّمت أن
أتذوَّق الحياة بطريقة عميقة، ومِنْ دون تعقيد، عندما كنتُ في السِّجن. لقد
اكتشفتُ آنذاك أنَّ الحياة الحقيقيَّة هي هذه التَّفاصيل البسيطة الَّتي تعودَّنا
أن نهملها ونضحِّي بها لصالح ما نتوهَّم أنَّه هو الحياة التي نحن ذاهبون إليها؛
ومن الطَّبيعيّ – والحال هذا – أنَّنا لا نصل إليها مطلقاً. لذلك تعلَّمتُ أن
أتذوَّق هذه التَّفاصيل بعمق وأستمتع بها أوَّلاً بأوَّل.
قالت: أي أنَّك تعلَّمتَ أنْ تحيا ولا تكتفي بالعيش».
(من «الطَّيران على عصا مكنسة»)
عصفوران..
«في مقعدٍ في الحافلةِ المقيّدة قلوب ركّابها بسلاسل لا
تنتهي،
المخترقةِ المطر والأوحال..
وفي مدى القلب،
فتىً وفتاة..
عصفورٌ وعصفورة،
رأسها مسنودٌ إلى كتفه،
رأسه مسنودٌ إلى رأسها،
يتهامسان،
يطلقان فراشاتهما الجميلة فوق الرّؤوس المحنيّة،
يجتازان بها أفق الحافلة،
ويحلِّقان في مدىً مفتوح..
فتحتُ قلبي، على وسعه، أخبِّئهما..
فمَنْ يدري أين يختبئ الصَّيّاد؟».
(مِنْ «مشي»)
جبال..
«أشارتْ
إلى مجموعةٍ من التِّلال المتراصَّة، وقالت: خلفها تجدُ ما تريد.
قلتُ مستهيناً: أهي تلك الَّتي في مرمى البصر؟
تجاهلت استهانتي، وقالت: عليك أن تبدأ منذ الآن؛ فأمامك
سفرٌ طويلٌ طويل.
وتعجّبتُ من الأمر، لكنّني شرعتُ بالسَّفر؛ فمشيتُ، ومشيتُ،
ومشيت، وحتّى هذه اللحظة ما زلت أمشي؛ إذ أنَّ الجبال الَّتي تفصلني عن مبتغاي هي
الأخرى تمشي».
(مِنْ «مشي»)
مشي..
«كان رجلٌ يمشي، أدخلوه السِّجن، فقال: أربطُ حذائي.
ومرَّتْ سنوات، أنهى الرَّجلُ رَبْطَ حذائه، وبينما هو
خارجٌ من السِّجن، قال: الآن، أواصلُ المشي».
(مِنْ «مشي»)