سعود قبيلات ▣
«حَلُمَ أنَّني موجود؛ فوُجِدتُ.
وطالما هو يحلُم، كُنتُ..
إلى أن استيقظ..
وعندئذٍ، لم أعد موجوداً،
بل إنِّي ما كنتُ».
(«حُلُم» مِنْ كتابي «كهفي» الصَّادر في العام 2012)
«نِمْتُ فحَلمتُ..
لا، بل حَلمتُ بأنَّني نِمْتُ وحَلمتُ.
***
أَفَقْتُ فحَلمتُ..
لا، بل حَلمتُ بأنَّني أَفَقْتُ وحَلمتُ.
***
حَلمتُ بأنَّني نِمْتُ وحَلمتُ وبانَّني بعد ذلك أَفَقْتُ وحَلمتُ.
لا، بل هل نمتُ؟
هل حلمتُ؟
هل أفقتُ؟
لا، بل..
لا، بل...».
(«لا.. بل..» مِنْ كتابي «ذهول الشَّخص» قيد الإعداد)
والآن، سأتكلَّم بطريقة أخرى..
لقد كنتُ، منذ فترة مبكِّرة مِنْ حياتي (ولا أزال)، أحبُّ مشاهدة الأفلام.. السِّينمائيَّة منها والتّلفزيونيَّة. وكان لهذه المشاهدات دورٌ مهمّ في إطلاق خيالي وصياغة وجداني.
وفي هذا المقال، أرغب في ترك الكلمات تتداعى لأنبش بها بعض الانطباعات والأفكار الَّتي ترسَّبتْ في نفسي مِنْ مشاهداتي لأفلامٍ لم أعد أتذكَّر أسماء معظمها ولا أسماء ممثِّليها أو مخرجيها.
لقد قلت: «الَّتي ترسَّبت في نفسي». وهنا، أريد أنْ أستدرك: استخدامي لصيغة الماضي هذه ليس إلّا على سبيل المجاز؛ فهذه الانطباعات والأفكار «الَّتي ترسَّبت» لن تكون مطلقاً بمنأى عن التَّأثّر باللحظة الَّتي أعيشها الآن.
وبما أنَّ التَّركيز هنا سيكون على الانطباعات، فإنَّ بعض التَّفاصيل التي سأعرضها قد لا يتَّسم بالدّقة، كما أنَّ انطباعاتي قد لا تتَّفق مع انطباعات سواي عن الأفلام نفسها. وبالتَّأكيد، فإنَّ ما أقوم به هنا ليس نقداً فنيّاً أو عرضاً أصوليّاً.. ولا بأيّ شكلٍ من الأشكال.
الغجر يصعدون إلى السَّماء
مِنْ هذا الفيلم السّوفييتيّ الجميل، وهو عن قصَّة للكاتب السّوفييتيّ الشَّهير مكسيم غوركي، أتذكَّر مشهداً في بداية الفيلم لاحتفالٍ صاخبٍ بمناسبة رأس السَّنة. ولكن، عندما ينتصف الليل، يشرب القوم ليس نخب السَّنة الجديدة وحدها كما هو معتاد بل أيضاً نخب قرنٍ جديد هو القرن العشرون. القرن الذي وُلدتُ فيه ووُلد فيه أبناء جيلي (بيتنا الزَّمنيّ القديم)، وصُنع ذلك الفيلم السّوفييتيّ الجميل فيه، بل ووٌلد الاتِّحاد السّوفييتيّ نفسه فيه وانتهى مع نهاياته.. في ما وصفه الرَّئيس الرّوسيّ الحاليّ فلاديمير بوتين بأنَّه «أكبر كارثة جيوسياسيّة في التَّاريخ».
وتمرّ، في ذهني، الآن، صورٌ متلاحقة لبعض الأحداث والمشاهد الهامَّة (غير الموجودة في الفيلم) التي تلت ذلك الاحتفال في أزمانٍ متفاوتة من القرن العشرين: حربان عالميَّتان حصدتا أرواح عشرات الملايين من البشر، وأوقعتا عشرات الملايين جرحى ومحطَّمين، وأورثتا المآسي والكوارث لمئات الملايين؛ ومشاهد البوارج الحربيَّة والجيوش المدجَّجة بأشدّ أنواع الأسلحة فتكاً وهي تجوب أنحاء العالم الَّذي سمِّي بالثَّالث في ما بعد، لتفرض إملاءات العواصم الإمبرياليَّة على شعوب آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيَّة.
ثمَّ تنتقل الكاميرا، الَّتي في رأسي، لتركِّز عدستها السِّحريَّة على مشهدٍ يصوِّر القفزات الهائلة الَّتي شهدتها الاكتشافات العلميَّة والاختراعات وتطوُّر التكنولوجيا ووسائل الاتِّصال وعلوم الطِّب والوقاية الصِّحيَّة.
وهنا، أعود فأتذكَّر، على سبيل المثال، أنَّ انطون تشيخوف، الكاتب الرّوسيّ العظيم، ورائد القصَّة الحقيقيّ، والطَّبيب أيضاً، مات وهو في الرَّابعة والأربعين من عمره بالسّلّ، بعد أربع سنوات فقط مِنْ ذلك الاحتفال برأس السَّنة وبالقرن الجديد. وللمفارقة المحزنة، فها هم النَّاس يموتون الآن بأعدادٍ كبيرة متزايدة بفايروس كورونا المستجدّ!
ولا تلبث اللحظة الحاليَّة أنْ تتقدَّم بمساهمتها في صياغة انطباعاتي؛ فأنتقل إلى أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين لأرى البوارج الحربيَّة والجيوش الاستعماريَّة، نفسها، وقد عادت للانتشار في العالم، وخصوصاً في عالمنا العربيّ والإسلاميّ، وهي مسلَّحة بأسلحة أشدّ فتكاً وتدميراً، كما أرى المندوبين السامين (الثابتين والمتجوّلين) يشرفون جميعاً على تنفيذ سياسات فرض الإملاءات والوصايات على الشّعوب والدّول الَّتي أضاعتْ أثمن فرصة أُتيحتْ لها في القرن العشرين لتتغلَّب على انحطاطها وتخلّفها وتصنع نهضتها ومنعتها في ظلّ التَّوازن الدّوليّ الَّذي كان قائماً آنذاك بين قطبين قويّين متصارعين.
وثمَّة مشهد آخر في الفيلم نفسه لا أنساه، يمثِّل احتفالاً ليليّاً في إحدى الغابات لمجموعة كبيرة من الأشخاص، كانوا يقفون متحلِّقين حول غجريَّة جميلة وهي تؤدِّي رقصات غريبة ذات إيحاءات مأساويَّة مع حبيبها الشَّاب الوسيم.
ولكن، لا تلبث الرَّقصة أنْ تنتهي بمأساة حقيقيَّة؛ إذ فجأة يتبادل الحبيبان طعناتٍ سريعة قاتلة. ويعبِّر المشهد وملامح الحبيبين، عندئذٍ، عن مزيجٍ قويٍّ من المشاعر المتناقضة، بحيث يصعب تمييز مشاعر الحبّ مِنْ مشاعر الكره.
الأمر الَّذي يذكِّر بأغنية فيروز الجميلة والعميقة الَّتي تقول بعض كلماتها: «اللي بحبّو انت.. واللي بكرهوا انت». وهذا مستوىً عالٍ من العمق والدِّقَّة في التَّعبير عن المشاعر.
لا أذكر، الآن، ما الَّذي أوصل الحبيبين في ذلك الفيلم السّوفييتي الجميل إلى تلك النِّهاية المأساويَّة؛ بحيث أنَّهما وهما في ذروة الشّعور بالحبّ، بلغتْ العداوة بينهما حدَّ القتل المتبادل مِنْ دون رحمة!
وهذا الفيلم، بالمناسبة، شاهدتُه أكثر مِنْ مرَّة. وفي كلّ مرَّة إضافيَّة شاهدته فيها، كنتُ أزداد إعجاباً به؛ ابتداء مِنْ اسمه الغريب «الغجر يصعدون إلى السَّماء»، ومروراً بمشاهد الطَّبيعة الفاتنة والتَّصوير المتقن الَّذي يعبِّر عن ذوق فنيّ رفيع ورؤية عميقة، إضافة للقدرات المميَّزة للمخرج الَّتي يعكسها الفيلم في تفاصيله وبمجمله ورؤيته وملامحه الفنيَّة والإبداعيَّة ولغته السِّينمائيَّة العالية؛ وليس انتهاءً بالإتقان الَّذي تميَّز به أداء الممثِّلين المشترك، وكلٌّ منهم على حدة، وأداء المجاميع الحاشدة فيه.
ضدّ الحرب
في سبعينيَّات القرن الماضي، شاهدتُ فيلماً فرنسيّاً لم أعد أذكر اسمه، ولكنَّني أذكر أنَّ ألن ديلون كان يقوم فيه بدور البطولة إلى جانب ممثِّلة فرنسيَّة لم أعد أذكر مَنْ هي. كان ديلون يقوم بدور طبيب يعمل مع الصَّليب الأحمر في موقعٍ خلفيّ مِنْ جبهة حربيَّة ما، بينما كانت الممثِّلة الَّتي تشاركه بطولة الفيلم تقوم بدور ممرِّضة تعمل في الموقع نفسه.
وما لفت نظريّ، بشكل أساسيّ في الفيلم، آنذاك، هو أنَّه لم يكن يعرض مشاهد المعارك الحربيّة الَّتي كانت تجري، بل يكتفي بعرض ما تخلِّفه مِنْ دمار وقتلى وجرحى وويلاتٍ ومآس.
أي أنَّه كان يقوم على رؤيةٍ فنيَّةٍ وفكريَّةٍ وأخلاقيَّةٍ تجعله يتجنَّب توظيف الإثارة المرتبطة بمشاهد العنف. إنَّه نوع من المواءمة الذكيَّة بين الشَّكل والمضمون. وهذا بخلاف ما تفعله، في المقابل، السِّينما الأميركيّة الَّتي تلجأ كثيراً لتوظيف مشاهد العنف.
وقد تجنَّب الفيلم، أيضاً، أنْ يحدِّد مكان تلك الحرب وزمانها وأطرافها وأسبابها. كانت هناك إشارات فقط إلى المعارك الطَّاحنة الَّتي كانت تجري مِنْ حين لحين في أماكن مغفلة الأسماء. وعندما يتوقَّف القتال في أحد المواقع، أو ينتقل المتقاتلون إلى موقعٍ آخر ومعركةٍ أخرى، يهرع فريق الصَّليب الأحمر، ومِنْ ضمنه الطَّبيب والممرِّضة اللذان أشرنا إليهما، إلى أرض المعركة المنتهية ليسعفوا الجرحى وينقلوهم مع القتلى إلى مخيَّم الإسعاف الخلفيّ.
وفي السِّياق نفسه، تنشأ قصَّة حبّ قويَّة بين الطَّبيب والممرِّضة، ولكنَّها لا تلبث أنْ تنتهي نهاية مأساويَّة مع نهاية الفيلم؛ إذ يتوقَّف الحبيبان بسيَّارتهما الصَّغيرة بجانب حقلٍ فسيح رأت الفتاة فيه بعض الزّهور الجميلة فرغبتْ في قطف واحدة منها. وبينما هي تتقدَّم نحو الأزهار والشابّ جالسٌ في السَّيَّارة بانتظارها، يلمح فجأة خيطاً رفيعاً مربوطاً بشيءٍ ما، فيصرخ مرعوباً بأعلى صوته، ولكن في تلك اللحظة نفسها يرتطم جسد الفتاة بالخيط ويدوِّي الانفجار.
لقد كان فيلماً مؤثِّراً، ومشغولاً بصورة جيِّدة ويحفز على كراهية الحرب بصورة مطلقة. بيد أنَّني، بعد انتهائي مِنْ مشاهدته بقليل، ما لبثتُ أنْ تساءلتُ: هل كلّ أطراف الحروب تتساوى دائماً في المسؤوليَّة عن ويلاتها؟ بمعنى، هل كلّ الأطراف في كلّ الحروب معتدون ومجرمو حرب ويستحقّون الإدانة والتَّشهير على قدم المساواة؟ ماذا عن حقّ المقاومة الَّذي أقرَّته الشَّرائع والقوانين الدّوليَّة؟ ماذا عن حقّ الدِّفاع عن الأوطان ضدّ العدوان الخارجيّ؟
كنتُ أفهم، بطبيعة الحال، أنَّ رأياً عامّاً ضدَّ الحرب بالمطلق قد تشكَّل في أوروبَّا بعدما شهدتْ العديد من الحروب الإمبرياليَّة الطَّاحنة. ولكن، ماذا عن الشّعوب الأوروبيَّة التي اُحتُلَّت بلدانها في الحرب العالميَّة الثَّانية خصوصاً واُضطرَّتْ للقتال مِنْ أجل حريَّتها وتحرير أوطانها؟ فهل كانت الأطراف جميعها في تلك الحالة متساوية في مسؤوليَّتها عن الحرب وما وقع فيها مِنْ خراب ودمار وكوارث؟ ثمَّ ماذا بالنِّسبة لشعوب المستعمرات والشّعوب الَّتي كانت تتعرَّض لحملاتٍ عسكريَّة غاشمة مِنْ أجل فرض إرادة بعض البلدان الإمبرياليَّة عليها وإتاحتها للنهب والسَّلب والاستغلال؟
جُرحي ينزف!
في السَّبعينيَّات كذلك، شاهدتُ في التّلفزيون فيلماً أميركيّاً لا أذكر ما اسمه ولا مَنْ كان يمثِّل فيه. ولكنَّني أذكر فكرته بشكلٍ عامّ: بطلة الفيلم امرأة شابَّة يصل تراكم المشاكل المزمن لديها في ليلة عيد الميلاد إلى ذروته؛ حيث تتعرَّض للعديد من الضّغوط الأسريَّة والاجتماعيَّة والماليَّة الصَّعبة، فتخرج مِنْ بيتها وتقود سيَّارتها في الشَّوارع على غير هدى، هاربةً من المشاكل الَّتي كانت تحيط بها وتضيِّق عليها الخناق. وفي أثناء سيرها، ترتطم سيَّارتها بشجرة على الرَّصيف، فيرتطم رأسها بالمقود ويُجرح وينزف.
تنزل المرأة من السَّيَّارة وهي تتمنَّى لو أنَّها لم توجد في هذا العالم. يسمعها ملاك كان قد هبط إلى الأرض للتوّ (ويبدو أنَّه هبط خصّيصاً مِنْ أجلها)؛ فيلبِّي رغبتها. وعندئذٍ، يتوقَّف النَّزيف مِنْ جبهتها.
بعد ذلك، يتغيَّر مسار حياتها، وحياة، ومصائر، وأنماط شخصيَّات، جميع معارفها وأسرتها وأقاربها وأصدقائها وأعدائها. وتختلف تفاصيل الأحداث، الَّتي كانت هي طرفاً فيها في السَّابق، ولا يتعرَّف عليها أحد من الَّذين كانت تعرفهم وتحبّهم (أو حتَّى تكرههم). وفي الوقت نفسه، تنتهي ديونها ومشاكلها وهمومها، وتصبح وحيدة تماماً؛ بلا ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل ولا أيّ نوعٍ من الانتماء إلى أيٍّ كان أو أيّ شيءٍ في هذا العالم الَّذي من المفروض أنَّها لا تزال تعيش فيه مع ذلك.
وفي البداية، تفرح المرأة كثيراً بهذا التَّغيير الكبير الَّذي طرأ على حياتها وأراحها مِنْ همومها ومتاعبها؛ ولكن، شيئاً فشيئاً، تبدأ معاناتها منه بالظّهور، وتواجه العديد من المرارات والمصاعب المرتبطة أصلاً بإلغاء حياتها السَّابقة، وشيئاً فشيئاً يصبح الأمر كابوسيّاً بالنِّسبة لها؛ بحيث أنَّها وهي في ذروة الألم تعود لتهيم في الشَّوارع مِنْ جديد، ثمَّ لا تلبث أنْ تتمنَّى مِنْ ربِّها أنْ يعيدها إلى حياتها السَّابقة.
وفجأة، تكتشف أنَّ جرحها عاد ينزف، كما كان في آخر مشهدٍ مِنْ حياتها السَّابقة، وعندئذٍ، تبتهج كثيراً، وتأخذ بالرَّكض في الشَّوارع وهي تصيح فرحة وسط دهشة النَّاس: جُرحي لا يزال ينزف.. جُرحي لا يزال ينزف!
اليوم يتكرَّر
مصوِّر تلفزيونيّ يذهب مع زميلته المذيعة الجميلة في المحطَّة نفسها لتغطية احتفال ما في إحدى المدن البعيدة. وبعد تغطية الاحتفال كما يجب، ينامان ليلتهما في أحد فنادق تلك المدينة. ولكن في صباح اليوم التَّالي، عندما يصحو المصوِّر، يكتشف أثناء استماعه للرَّاديو أنَّ اليوم لا يزال هو أمس، يظنّ أنَّ في الأمر خطأً ما فيطلّ مِنْ نافذة غرفته وعندئذٍ يكتشف أنَّ المشهد الّذي كان قد غطَّاه أمس موجود في مكانه بحذافيره كما كان في الأمس وأنَّ عليه أنْ يذهب لتغطيته مجدَّداً.
وفي أثناء نزوله من غرفته، إلى قاعة الاستقبال في الفندق ثمَّ إلى الشَّارع ثمَّ إلى مكان الاحتفال تتكرَّر معه بالتَّفصيل كلّ الأحداث الصَّغيرة الِّتي صادفته أمس في الطَّريق نفسه.
وينام ليلته تلك أيضاً في الفندق نفسه، وعندما يصحو في الصَّباح يجد أنَّه لم يغادر يومه الأوَّل في تلك المدينة. يحاول أنْ يكاشف زميلته بما يجري ولكنَّها تسخر منه ولا تأخذ كلامه على محمل الجدّ؛ فهي، بخلافه، لا تتذكَّر أنَّها عاشت اليوم نفسه أمس، والأمر نفسه ينطبق على الآخرين الَّذين يحتكّ بهم المصوِّر في إطار يومه الَّذي لا يتغيَّر.
وهكذا، تتوالى أيَّامه، أو بالأحرى يمتدّ يومه، بلا نهاية؛ فيشعر بأنَّه محاصر ولا يعرف كيف يمكنه الخلاص مِنْ هذا الحصار. وعندئذٍ، يخطر له أنْ يتسلَّى؛ فيفاجئ بعض النَّاس بمعرفته الدَّقيقة بما سيحدث لهم في يومهم بالتَّفصيل، ويعبث مع بعضهم الآخر قليلاً، مستغلاًّ معرفته ببعض تفاصيل حياتهم الَّتي كانوا قد حدَّثوه عنها بالأمس، بل ويغيِّر اتِّجاه سير بعض الأحداث مِنْ خلال تغييره لمسبِّباتها التي كان قد عرفها في يومه المتكرِّر.
ثمَّ لا يلبث الإحباط أنْ يبلغ ذروته لديه، وعندئذٍ يقرِّر أنْ ينتحر، فيركب سيَّارته ويقودها بسرعة كبيرة ثمَّ يهوي بها في هوَّةٍ سحيقة ويموت. لكنّه، رغم ذلك، يصحو في الصَّباح التَّالي ليجد نفسه حبيس اليوم المكرَّر نفسه. ولا يتزحزح هذا اليوم الثَّقيل عن كاهله إلا بالحبّ؛ إذ يكتشف المصوِّر وزميلته أنَّ كلاًّ منهما يحبّ الآخر، وعندئذٍ ينفتح الصَّباح على مشهدٍ جديد ويومٍ جديد.
ضبابٌ رماديٌّ كثيف
عندما شاهدتُ الفيلم الذي يحمل اسم «الآخرون» لأوَّل مرَّة ظننتُه أميركيّاً؛ لأنَّ مَنْ تقوم فيه بدور الشخصيَّة الرئيسة هي الممثِّلة الهوليووديَّة، الاستراليَّة الأصل، نيكول كيدمان. ولكنَّني في ما بعد عرفتً أنَّه اسبانيّ، بمخرجه وممثِّليه (باستثناء كيدمان طبعاً). وهو يبدو، لأوَّل وهلة، كفيلم رعبٍ عاديّ، ولكن المشاهد المتمعِّن لا يلبث أنْ يدرك أنَّه ليس كذلك.. بل ينطوي على فكرة عميقة مدهشة.
الشَّخصيَّة الرَّئيسة في الفيلم تبدو كأمّ متزمِّتة لطفلين صغيرين (ولد وبنت). وهي متشدِّدة بصورة أكبر مع البنت الّتي كانت تظلّ تدَّعي أنَّها ترى أشخاصاً خفيّين يتجوَّلون في البيت ولا يراهم أحدٌ سواها، وأنَّها تتحدَّث باستمرار مع صبيٍّ بمثل سنِّها مِنْ هؤلاء المتطفِّلين الغامضين. الأمُّ تنظر إلى أقوال ابنتها هذه على أنَّها مجرَّد خيال أو نوع من المشاكَسة لها. ولذلك، فهي ترفض دائماً سماع هذا الحديث مِنْ طفلتها وتصدّها بحزم.
وفي البيت، أيضاَ، زوجان عجوزان بملامح لاتينيَّة يقومان على خدمة البيت والمرأة وطفليها. ومن السِّياق، نفهم أنَّ ربّ الأسرة مات مؤخَّراً في الحرب وأنَّ المرأة اشترت البيت الَّذي تقيم فيه الأسرة بعد إبلاغها بوفاة زوجها.
أمَّا البيت، فهو عبارة عن قصرٍ كبير قديم منعزل.. تحيط به ساحة واسعة يسوِّرها إطارٌ خشبيّ، وتلي ذلك غابة كبيرة. والأجواء، دائماً، في البيت، ليليَّة لأنَّ السَّتائر مسدلة باستمرار؛ حيث تقول المرأة إنَّ طفليها يعانيان مِنْ حساسيَّة غريبة تجعل الضَّوء خطيراً على صحَّتهم. ولكن، الأجواء حول البيت أيضاً ضبابيَّة رماديّة باستمرار. وثمَّة ما يثير الشّكوك والرِّيبة في العجوزين الخادمين ولا نعرف ما هو.
وتتوالى تفاصيل الحياة اليوميَّة في هذا الجوّ الغامض المليء بالرِّيبة والتَّوتّر. وفي أحد الأيَّام نفاجأ بعودة الزَّوج بملابسه الحربيَّة المتَّسخة وهو منهك وشارد الذِّهن. تفرح الأسرة بمجيئه، ولكنَّه ما إنْ يدخل غرفة النَّوم حتَّى يرتمي على الفراش مِنْ دون أنْ يغيِّر ملابسه ويغرق في نومٍ عميقٍ وطويل. وعندما يصحو، يدور حوار غريب بينه وبين زوجته. ومِنْ ضمن ذلك أنَّه يسألها وهو شارد الذِّهن عن السَّبب الَّذي جعلها تفعل ذلك الأمر الفظيع بالأولاد، ولا يفصح عن ما يقصده بذلك الكلام.
وفي النِّهاية، ينهض متثاقلاً ويخبر الأسرة بأنَّه يجب أنْ يمضي، وأنَّه جاء لرؤيتهم فقط. وبالفعل، يغادر البيت مِنْ دون أنْ نعرف إلى أين أو لماذا!
مشهد الزّوج العائد ونومه الطّويل العميق والحوار الغريب الَّذي دار بينه وبين زوجته ومغادرته الغامضة بعد استيقاظه إنَّما هو قصَّة بحدِّ ذاته. وكثيراً ما تذكّرتُ تفاصيل هذا المشهد، بتأثّرٍ شديد، في مواقف حياتيّة مختلفة.
ثمَّ نكتشف أنَّ أحداّ ما قد أزال ستائر البيت جميعها. وعندئذٍ، تكون استجابة الأمّ هستيريَّة تماماً لخوفها على أولادها من الضَّوء، ولكن لا شيء يحدث لهم مع ذلك.
ثمَّ يتبيَّن لنا، في مفاجأة أخرى مرعبة، أنَّ الخادمين العجوزين ليسا سوى شخصين ميِّتين منذ زمنٍ بعيد وأنَّ قبريهما يقومان فوق تلَّة صغيرة في الجوار.
وتحاول الأمّ وطفلاها، وهم في أشدّ حالات الهلع، منع هذين الميِّتين مِنْ دخول البيت مجدَّداً.
بيد أنَّنا لا نلبث أنْ نكتشف، في النِّهاية، ما هو أهمّ مِنْ ذلك وأخطر، وهو أنَّ الأمَّ وطفليها وزوجها هم أيضاً ميِّتون؛ وأنَّ الأم، بعد تبلّغها بمقتل زوجها في الحرب، كان قد أصابها يأسٌ شديد فقتلتْ طفليها وانتحرتْ، وأنَّ هناك بالفعل أشخاصاً آخرين في البيت، مِنْ ضمنهم ذلك الصَّبيّ الَّذي كانت الطِّفلة تقول دائماً إنَّها تراه وتحادثه. ولكن أولئك الأشخاص أحياء، وقد اشتروا البيت مؤخَّراً، ثمَّ لاحظوا أنَّه مسكون بالأرواح. وعندئذٍ، قرَّروا هجره وعرضه للبيع.
ينتهي الفيلم هنا، ليبدأ السّؤال الَّذي لا ينتهي، وهو: مَن الميِّت ومَن الحيّ حقّاً؟
وهذا، يذكِّرني، مِنْ زاوية أخرى، بقصيدةٍ جميلةٍ لشاعرٍ صينيٍّ قديم، أوردها إيريك فروم في كتابه «الحكايات والأساطير والأحلام»، تقول:
«حلمتُ الليلة الماضية بأنَّني فراشة،
ولستُ أدري الآن
هل أنا إنسان يحلم بأنَّه فراشة
أم هل أنا فراشة تحلم الآن بأنَّها إنسان».