سعود قبيلات ▣
|
لوحة «الذَّهب الأبيض» لأنجي أفلاطون
|
وقعت بين يديّ، منذ مدّة قريبة، رواية جديدة للأديب المصريّ المعروف صُنع الله إبراهيم، بعنوان «1970»، يتحدَّث فيها عن عام رحيل الرَّئيس جمال عبد النَّاصر. صُنع الله إبراهيم سُجِنَ في عهد عبد النَّاصر، وبعد خروجه من السِّجن كتب روايته «تلك الرَّائحة» الَّتي فازت بجائزة جريدة «النَّهار» اللبنانيّة في العام 1968.. بالتَّشارك مع روايتين للأديبين الأردنيين: تيسير سبول، وأمين شنّار. وقد أشرت إلى «تلك الرَّائحة»، أكثر مِنْ مرّة، لدى كتابتي موضوعاتٍ عن السِّجن.
في روايته الجديدة («1970») يسرد صنع الله إبراهيم بعض وقائع العام الأخير مِنْ حياة عبد النّاصر، مستخدماً أسلوب الكولاج (اللصق)، ويسرد وقائع حياة عبد النَّاصر وذكرياته بلغة المخاطَب. والحقيقة أنَّها رواية مؤثِّرة جدّاً.. تنصف اسم عبد النّاصر الكبير ودوره المهمّ في التّاريخ، ولكنَّها لا تخلو مِنْ نقد بعض جوانب تجربته العظيمة بشيء من القسوة أحياناً، كما أنَّها لا تخلو مِنْ بعض الوقائع غير الدَّقيقة في أحيانٍ أخرى.
غارة جوّيّة على أربد..
تبدأ الرواية بإيراد خبرٍ عن عدوانٍ جوِّيٍ «إسرائيليّ» على مدينة إربد شمال الأردنّ في مطلع العام 1970، وتنتهي بالمشهد الملحميّ المؤثِّر جدّاً لرحيل الزَّعيم العربيّ الكبير جمال عبد النَّاصر في مساء يوم 28 أيلول/سبتمبر 1970.
أتذكَّر تماماً ذلك المساء الحزين الَّذي جثم على الصّدور قبل خمسين عاماً. قطعتْ الإذاعات المصريَّة برامجها المعتادة فجأة وأخذتْ تبثّ القرآن الكريم بشكلٍ متواصل، ثمَّ أذيع النَّبأ الحزين الَّذي فجع الغالبيّة العظمى من العرب وشعوباً أخرى كثيرة. كنتُ، في ذلك المساء، مع بعض أبناء قريتي («مليح») جالسين في بيت أحدهم، وما إنْ سمعنا النَّبأ الفاجع حتَّى سيطر علينا الوجوم ثمَّ لم نلبث أنْ أنهينا جلستنا وعاد كلٌّ منَّا مصدوماً إلى بيته. كانت بلادنا تعيش، آنذاك، مأساة أيلول 1970 الأليمة، لكنّ خبر رحيل عبد النَّاصر غطَّى على كلّ شيء. وسرعان ما رُفِعَتْ رايات الحداد السّوداء على الكثير مِنْ بيوت القرية.
ومنذ ذاك ولغاية هذه اللحظة، لم تتوقَّف محاولات تشويه صورة جمال عبد النَّاصر والهجوم الظّالم عليه. لقد عايشتُ بعضاً مِنْ مرحلة عبد النَّاصر وامتداداتها، وأذكر إلى أيّ حدّ هذه التَّشويهات ظالمة وإلى أيّ حدّ كانت مصر في ذلك العهد متألِّقة.
برحيل عبد النَّاصر، انقلب كلّ شيء في عالمنا العربيّ وفي العالم. تراجعت حواضر الأمّة (وفي مقدِّمتها القاهرة ودمشق وبغداد) وتقدّمت، بدلاً منها، «مدن الملح»[!] ، والصَّحراء بثقافتها القروسطيّة الجدباء الَّتي هجمت كالجراد على أفضل ما في الأمّة وتركت الحياة العربيّة قاعاً صفصفاً..
وأنا هنا لا أنوي أنْ أقوم بتقديم عرض لرواية صنع الله إبراهيم التي استهللتُ مقالي بالحديث عنها، أو كتابة موضوع نقديّ لها.. بل أنوي أنْ أتحدَّث عن أمرٍ آخر تماماً؛ ألا وهو تلك الظّاهرة النّادرة اللافتة التي ارتبطت بعبد الناصر وثورته؛ حيث مقابل استمرار البعض بالتَّعبير عن عدائه الشَّديد لهما، على مرّ السّنين.. كما لو أنَّ الرَّجل لا يزال حيّاً ولا يزال برنامجه قيد التّنفيذ، نجد أُدباء ومثقَّفين وسياسيين اختلفوا مع بعض الممارسات والسياسات في العهد النّاصريّ، فأضيروا على نحوٍ ما أو سُجِنوا، وبعضهم كان لا يزال في السّجن عندما رحل عبد النَّاصر، لكنَّهم لم ينتهزوا فرصة غيابه والانقلاب على نهجه ليتصرّفوا معه ومع إرثه بروح ثأريّة بدائيّة أنانيّة؛ بل تجاوزوا عن ثاراتهم وعلوا على جراحهم، وأنصفوا الرّجل بعد رحيله ووقفوا في الجبهة الأماميّة للدِّفاع عنه. لأنَّهم رأوا فيه قائداً وطنيّاً وقوميّاً صادقاً وصاحب مشروع نهضويّ تحرّري حقيقيّ. وهذا رغم أنَّ مَنْ يمدحه، بعد رحيله، خاسر، كما قال عبد الرَّحمن الأبنوديّ في إحدى القصائد التي رثا فيها عبد النَّاصر:
«من يمدحُه يطلع خاسر
ويشبَّروله.. أيامه»
ولقد رثا جمال عبد النَّاصر كثير من الشّعراء المصريين والعرب، ومنهم:
عبد المنعم الرّفاعيّ، سليمان المشّينيّ، نزار قبّاني، صلاح عبد الصبور، عبد المعطي حجازي، محمد مهدي الجواهري، محمد الفيتوريّ، محمود درويش، حمد بن خليفة، عبد الرحمن الأبنوديّ، أحمد فؤاد نجم، فاروق شوشة، جمال بخيت، محمد إبراهيم أبو سنة، محمد الجيّار، الهادي آدم، عزيز أباظة، أحمد رامي، صالح جودت، صلاح جاهين، إبراهيم الحضراني، محمد حبيب صادق، محمد عبد المنعم الأنصاريّ، زكي مراد، على الجنديّ، يوسف صديق، كمال عمّار، معين بسيسو، هارون هاشم رشيد، جورج جرداق، أحمد سويلم، شريف أباظة، محمود حسن إسماعيل، أمل دنقل، سميح القاسم، فدوى طوقان، سعاد الصباح، فؤاد بدويّ، محمد أحمد المشاري، فؤاد حدّاد.
على أيَّة حال، الشّعراء الَّذين رثوا عبد النَّاصر كثيرون، كما سبق أن أوضحتُ، ومَنْ يريد الاستزادة في هذا المجال، يمكنه الرّجوع إلى كتاب «جمال عبد النَّاصر: الزَّعيم في قلوب الشّعراء»، تأليف: حسن توفيق. وقد اشتمل على 100 قصيدة لـ 93 شاعراً مِنْ مختلف البلدان العربيّة.
أمَّا مقالي هذا فمخصَّص للحديث عن بعض الأدباء والمثقَّفين الّذين أُضيروا في عهد عبد النَّاصر واختلفوا معه، ولكنّهم رثوه رثاءً مجيداً ودافعوا عنه بصدق ودأب بعد رحيله.
وقد اخترتُ خمسة فقط مِنْ هؤلاء، أحدهم أسلفتُ الحديث عنه في مطلع هذا المقال، إلا وهو صُنع الله إبراهيم وروايته «1970»، وسأتحدَّث تالياً عن الأربعة الآخرين وهم: أحمد فؤاد نجم، وعبد الرحمن الأبنوديّ، ومعين بسيسو، ونزار قبَّاني.
فاجومي مِنْ جنسنا
الشَّاعر أحمد فؤاد نجم، سُجن، مراراً، في العهد الناصريّ. وقيل إنَّ عليّ سالم البيض ونايف حواتمة تدخَّلا عند الرَّئيس عبد النَّاصر لإطلاق سراحه، لكنّه رفض. ويوم وفاة ناصر كان نجم في السِّجن، ومع ذلك، فقد رثاه بقصيدة حارَّة ومؤثِّرة جدّاً، ومِنْ ضمن ما جاء فيها:
«احنا نبينا كده
من ضلعنا نابت
لا من سماهم وقع
ولا من مرا شابت
ولا انخسف له القمر
ولا النجوم غابت
أبوه صعيدي وفهم قام طلَّعه ظابط
ظبط على قدنا وع المزاج ظابط
فاجومي من جنسنا
ما لوش مرا عابت
فلاح قليل الحيا
إذا الكلاب سابت
ولا يطاطيش للعدا
مهما السِّهام صابت
عمل حاجات معجزه وحاجات كتير خابت
وعاش ومات وسطنا
على طبعنا ثابت
وإن كان جرح قلبنا كلّ الجراح طابت
ولا يطولوه العدا
مهما الأمور
جابت».
مش ناصريّ لكن..
أُعتُقِل عبد الرَّحمن الأبنوديّ في العام 1966، ضمن أدباء ومثقَّفين مصريين آخرين. وكان مِنْ ضمن المعتقلين الأديب الأردنيّ المعروف غالب هلسا، الذي أمضى نصف حياته في المنافي بسبب جور الأحكام العرفيّة في بلاده.. وقد أمضى القسط الأكبر من المنفى في مصر، والباقي في بغداد وبيروت ودمشق حيث توفِّي هناك، وعاد إلى عمَّان في تابوت.
في كتابه «أُدباء علَّموني... أُدباء عرفتهم» (جمعه وحقَّقه الشهيد ناهض حتَّر، وصدر عن «دار التَّنوير العلميّ للنَّشر والتَّوزيع»، و«المؤسَّسة العربيّة للدِّراسات والنَّشر»، في العام 1996)، يقول هلسا إنَّه أُعتُقِلَ في تاريخ 5 تشرين الأوَّل/أُكتوبر 1966 مع العديد من المثقَّفين المصريين، وإنَّه رأى، مِنْ ثقبٍ صغير في باب زنزانته في سجن القلعة، السَّجَّانين يضعون شخصاً في الزِّنزانة المقابلة لزنزانته؛ فقال لنفسه: «هذا هو الأبنوديّ» و«كان ذلك مجرّد حدس». ولكن، عندما سمعه يردِّد بصوتٍ مرتفع أغنية فيروز «عم بتضوِّي الشَّمس ع الأرض المزروعة»، تأكَّد أنَّه الأبنوديّ.
ومع ذلك، عندما رحل عبد النَّاصر، رثاه الأبنوديّ بقصائد جميلة مؤثِّرة.
أُعتُقل الأبنوديّ أيضاً في عهد الرَّئيس السّادات بسبب قصيدة قالها ضدّ اتِّفاقيّات الاستسلام («كامب ديفيد» وملحقاتها) الَّتي عقدها السّادات مع «إسرائيل». وقد ظلّ حتَّى آخر يوم في حياته على عداء شديد مع النَّهج الَّذي اختطَّه السَّادات بمجمله.
ومِنْ ضمن ما قاله الأبنوديّ في رثاء عبد النَّاصر:
«مش ناصري ولا كنت ف يوم
بالذات في زمنه وف حينه
لكن العفن وفساد القوم
نسّاني حتى زنازينه.. في سجون عبد الناصر»
«أعداؤه كرهوه ودى نعمة
مِن كرهُه أعداؤه صادق
في قلبه كان حاضن أمَّة
ضمير وهمَّة ومبادئ ساكنين في صوت عبد الناصر
ملامحنا.. رجعت بعد غياب
دلوقت بس اللى فهمناه
لا كان حرامي ولا كدَّاب
ولا نهبها مع اللى معاه أنا باحكى عن عبد الناصر».
«كان الهلال في قلبه صليب
ولا شفنا حزازات في بلادنا
ولا شُفنا ديب بيطارد ديب
ولا جرَس خاصم مادنة وَحَّدْنا صُوت عبد الناصر»
«لولاه ماكنتوا اتعلمتوا
ولا بقيتوا "دراكولا"
ياللى انتو زعما وإنجازكو
دخّلتوا مصر الكوكاكولا وبتشتموا ف عبد الناصر»
«الأرض رجْعت للإقطاع
وقالوا: "رجعت لصْحابها"
وصاحبَك الفلاح تاني ضاع
ضاعْت العقود واللى كتبها وخط إيد عبد الناصر!».
«صحينا على زمن الألغاز
يحكمنا فيه "أهل الأعمال"
وللعدو.. صدّرنا الغاز
بفرحة وبكل استهبال نكاية في عبد الناصر!».
«يا جمال.. نجيب زيك من فين
يا نار.. يا ثورة.. يا ندهِةْ ناي..
البوسطجي.. إللى اسمه "حسين"
- أبوك - منين جابك؟ وإزاي.. عمل جمال عبد الناصر؟!».
الكرسيّ الشَّاغر كالجرح
أُعتُقل معين بسيسو، للمرَّة الأولى، خلال المدّة الواقعة ما بين العامين 1955 و1957، وأُعتُقِلَ، للمرّة الثَّانية، خلال المدّة الواقعة ما بين العامين 1959 و1963. ومع ذلك، فله أكثر مِنْ قصيدة في رثاء عبد النَّاصر. وقد قال في قصيدة بعنوان «تحت صورة عبد النَّاصر»:
«هي ذي مصر...
طفل مِنْ "بولاق"...
محمولٌ فوق الأعناق...
يرفع "صورتك"، ولا يعرف أين يسير
والحرّيّة...
تتحسَّس بأصابعها المرتعشة...
أوراق جواز السَّفر، وأوراق الجنسيَّة...
كنتَ جواز السَّفر، وكنتَ لها الجنسيَّة...
والكرسيُّ الشَّاغر يا عبد النَّاصر...
هذا الجرح الفاغر...
فمه،
أكبر مِنْ كلّ ضمادهْ...
أصبح في حجم الهرم الأكبر...
يلتفُّ عليه نهر النّيل،
كتنّينٍ أخضر... ».
«... فهنالك في "عابدين"،
وفي "شبرا الخيمة"...، يا عبد الناصر...
يقرأ أحد العمّال،
على ضوء مصابيح الشَّارع،
"أوراق الميثاق"...
ويغمغم: كم كان صديقي... ».
خطابٌ عاجل..
كانت قصائد الشَّاعر نزار قبّاني قد مُنِعتْ من النَّشر في وسائل الإعلام المصريّة بعد هزيمة حزيران 1967، ومُنِعتْ كذلك الأغاني المبنيّة على أشعاره، وذلك ردّاً على قصيدته «هوامش على دفتر النَّكسة». وقد جاء هذا المنع بتحريض من الشَّاعر المصريّ المعروف صالح جودت. ومعروف عن صالح جودت أنَّه كان في العهد الملكيّ قد مدح الملك فاروق في قصيدة بعنوان «أنشودة الفنّ»، وفي العهد النَّاصريّ مدح عبد النَّاصر.. ومِنْ ضمن ما قاله فيه: «ابقَ فأنت الأمل الباقي لغدِ الشَّعب.. أنت الخير وأنت النّور.. وأنت الصَّبر على المقدور.. أنت النَّاصر والمنصور.. ابقَ فأنت حبيب الشَّعب». وبعد رحيل عبد النَّاصر، تحوَّل إلى خصمٍ له ونصير متحمّس لمن انقلب على نهجه.
وقد كتب نزار قبَّاني – كما هو معروف –رسالة لعبد النَّاصر عن منع دواوينه وقصائده المغنَّاة، فأصدر عبد النَّاصر قراراً برفع هذا المنع.
وعندما رحل عبد النَّاصر، رثاه نزار بأكثر مِنْ قصيدة. ومِنْ ضمنها قصيدة بعنوان «رسالة إلى جمال عبد النَّاصر»، وضع لها رياض السّنباطيّ لحناً حزيناً مؤثِّراً وغنَّتها أمّ كلثوم، ولكن لم تتمّ إذاعتها حتَّى الآن، ويمكن العثور عليها على يوتيوب، قال:
«والدُنا جمالَ عبدَ الناصرْ:
عندي خطابٌ عاجلٌ إليكْ..
مِنْ أرضِ مصرَ الطيِّبةْ
مِنْ ليلها المشغولِ بالفيروزِ والجواهرِ
ومِنْ مقاهي سيّدي الحسين، مِنْ حدائقِ القناطرِ
ومِنْ تُرعِ النيلِ الَّتي تركتَها..
حزينةَ الضَّفائرِ..
عندي خطابٌ عاجلٌ إليكْ
من الملايينِ الَّتي قد أدمنتْ هواكْ
من الملايين الَّتي تريدُ أن تراكْ
عندي خطابٌ كلّهُ أشجانْ
لكنّني..
لكنّني يا سيّدي
لا أعرفُ العنوانْ…
***
والدُنا جمالَ عبدَ الناصرْ
الزَّرعُ في الغيطان، والأولادُ في البلدْ
ومولدُ النَّبيِّ، والمآذنُ الزَّرقاءُ..
والأجراسُ في يومِ الأحدْ..
وهذهِ القاهرةُ الَّتي غفَتْ..
كزهرةٍ بيضاءَ.. في شَعرِ الأبَدْ..
يسلّمونَ كلّهم عليكْ
يقبّلونَ كلّهم يديكْ..
ويسألونَ عنكَ كلَّ قادمٍ إلى البلدْ
متى تعودُ للبلدْ؟…
***
حمائمُ الأزهرِ يا حبيبَنا.. تُهدي لكَ السَّلامْ
مُعدّياتُ النّيلِ يا حبيبَنا.. تّهدي لكَ السَّلامْ..
والقطنُ في الحقولِ، والنَّخيلُ، والغمامُ..
جميعُها.. جميعُها.. تُهدي لكَ السَّلامْ..
كرسيُّكَ المهجورُ في منشيّةِ البكريِّ..
يبكي فارسَ الأحلامْ..
والصَّبرُ لا صبرَ لهُ.. والنّومُ لا ينامْ
وساعةُ الجدارِ.. مِنْ ذهولِها..
ضيّعتِ الأيّامْ..
يا مَنْ سكنتَ الوقتَ والأيَّامْ
عندي خطابٌ عاجلٌ إليكَ..
لكنّني…
لكنّني يا سيّدي.. لا أجدُ الكلامْ
لا أجدُ الكلامْ..
***
والدُنا جمالَ عبدَ الناصرْ:
الحزنُ مرسومٌ على الغيومِ، والأشجارِ، والسَّتائرِ
وأنتَ سافرتَ ولم تسافرِ..
فأنتَ في رائحةِ الأرضِ، وفي تفتُّحِ الأزاهرِ..
في صوتِ كلِّ موجةٍ، وصوتِ كلِّ طائرِ
في كتبِ الأطفالِ، في الحروفِ، والدَّفاترِ
في خضرةِ العيونِ، وارتعاشةِ الأساورِ..
في صدرِ كلِّ مؤمنٍ، وسيفِ كلِّ ثائرِ..
عندي خطابٌ عاجلٌ إليكْ..
لكنّني..
لكنّني يا سيّدي..
تسحقُني مشاعري..
***
يا أيُها المعلّمُ الكبيرْ
كم حزنُنا كبيرْ..
كم جرحُنا كبيرْ..
لكنّنا
نقسمُ باللهِ العليِّ القديرْ
أن نحبسَ الدّموعَ في الأحداقْ..
ونخنقَ العبرهْ..
نقسمُ باللهِ العليِّ القديرْ..
أن نحفظَ الميثاقْ..
ونحفظَ الثَّورهْ..
وعندما يسألُنا أولادُنا
مَنْ أنتمُ؟
في أيِّ عصرٍ عشتمُ..؟
في عصرِ أيِّ مُلهمِ؟
في عصرِ أيِّ ساحرِ؟
نجيبُهم: في عصرِ عبدِ الناصرِ..
الله.. ما أروعها شهادةً
أن يوجدَ الإنسانُ في عصرِ عبدِ الناصرِ..»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] استعارة مِنْ مواطننا الأديب العربيّ الكبير عبد الرحمن منيف، الَّذي وُلِدَ في عمَّان ونشأ فيها، وكتب عنها في أواخر حياته كتابه «قصّة مدينة».