مجدي
ممدوح
لا يتأخَّر النَّص (نصّ كهفي) في الإفصاح عن مضمون الشّيفرة المتضمَّنة في العنوان، حيث تتبلور ملامح هذا الكهف مع تقدّم السَّرد لتقدِّم توصيفا وجوديّا للذَّات، حيث تصبح مفردة «كهفي» مرادفة لمفردة «ذاتي».
والذَّات
في نصّ «كهفي» ليست ذرَّة مفردة معزولة، بل إنَّ هذه الذَّات هي
مجموعة من التَّعالقات الَّتي تربطها مع العالم والذَّوات الأخرى، وسوف نعاين النَّصّ
وهو ينخرط دون إبطاء في التَّأسيس الأنطولوجي لهذه الذَّات.
ربَّما
نستطيع أن نقرأ نصّ «كهفي» بوصفه سرديَّة وجوديَّة للذَّات، وهذه السَّرديَّة
يتوجَّب علينا أن نقرأها بوصفها حلقة مِنْ مشروع سعود قبيلات في التَّأسيس الأنطولوجي
للذَّات، والحلقات الأخرى هي النُّصوص السَّابقة لسعود قبيلات، بالإضافة للنُّصوص
اللاحقة، إذا نظرنا إلى هذه السَّرديَّة بوصفها مشروعاً منفتحا لا يقرّ بالاكتمال،
لأن الاكتمال يعني تحقُّق كافَّة الإمكانات المتضمَّنة في الوجود الماهوي، والماهيَّة
وفق رؤية قبيلات لا تتحقَّق بقانون كن فيكون، بل أنَّها تفصح عن ملامحها في
الممارسات الوجوديَّة للذَّات.
والدَّرس
الوجوديّ الَّذي نستشفّه مِنْ مشروع قبيلات أنَّ الذَّات عبارة عن وجود وماهيَّة،
وهو ينبِّهنا دائماً أن لا نفقد اتّصالنا مع الجانب الماهويّ للذَّات، فالماهيَّة
والوجود يدخلان عنده في جدل خلَّاق، ولا أسبقيَّة لأحدهما على الآخر.
عنيت
بعبارة النُّصوص اللاحقة لسعود قبيلا ت نصّ «بعد خراب الحافلة»، فالكهف الَّذي
تدور فيه الأحداث في نصّ «كهفي» هو مؤسَّس سابقاً في نصّ «بعد خراب
الحافلة»، ومع أنَّ نصّ «بعد خراب الحافلة» هو نصّ سابق على «كهفي»
مِنْ حيث تاريخ صدوره، إلا أنَّه يُعتبر نصّاً لاحقاً مِنْ حيث التَّأسيس للسَّرديَّة
الوجوديَّة الَّتي يوثِّقها قبيلات في نصوصه، حفرة الذَّات نجدها في الباب الأوَّل
مِنْ نصّ «بعد خراب الحافلة» وبنفس المتن الَّذي نجده في «كهفي»: «وذات
يوم وجدتُني على كتف هضبة جرداء، واقفاً أمام حفرة صغيرة قديمة غير منتظمة الحواف،
مهملة ولا يلفت مظهرها النَّظر ووجدتني – مدفوعاً بالرَّغبة في استجلاء كنهها
وأبعادها- أهبط إليها بوساطة درجاتٍ ترابيَّة هشَّة وغير متناسقة».(بعد خراب
الحافلة ص 57) . وهكذا تصبح الأحداث في «كهفي»
مِنْ حيث زمانيَّتها هي أحداث تحدث قبيل خراب الحافلة.
هذه
القراءة التَّأويليَّة للنّصّ تعتمد بالأساس على مفهوم الدَّائرة التَّأويليَّة الَّذي
وضعه ديلتاي، وهو يعني إدراك المعنى الكلِّيّ العامّ للنَّصّ كمبادأة أوليَّة،
ثمّ اسقاط هذا المعنى على الوحدات النَّصيَّة الجزئيَّة للنَّصّ، واستخراج دلالات
هذه الوحدات استناداً إلى هذا الإدراك، والمعنى الكلِّيّ هو معنى مبدئيّ وليس
نهائيّاً، بمعنى أنَّ هذا المعنى قابل للتَّعديل وفقاً للنَّتائج التَّأويليَّة الَّتي
نتحصَّل عليها من الوحدات السَّرديَّة، وربَّما يعمد المؤوِّل إلى استبدال فرضيَّته
الأولى حول المعنى العامّ بفرضيَّةٍ أخرى إذا لم تُثبت الفرضيَّة الأولى كفاءةً في
إنطاق وحدات النَّصّ وإحداث تناغم معقول بين المعنى اللفظيّ والدَّلالة، وهذا يقود
بالطَّبع للتَّقرير بأنَّ الدَّلالة المنتجة وفق هذه الآليَّة هي أقصى معنى محتمل
للنَّصّ، وهي ليست مطلقة وليست نهائيَّة بأيّ حالٍ من الأحوال. هذه هي الاستراتيجيَّة
الَّتي طبَّقتُها على النَّصّ للتَّوصّل إلى الدَّلالة الأوليَّة الَّتي أحالت
العنوان «كهفي» إلى «ذاتي». [1]
التَّأويل
هو ممارسة خطابيَّة بالدَّرجة الأساس، وليست اشتغالاً على النَّصّ بما هو نصّ،
بمعنى أنَّ النَّصّ يجب أن يكون مكتفياً بذاته وله كينونته المستقلَّة قبل عمليَّة
التَّأويل، والتَّأويل يأتي على الدَّوام كعنصر مضاف لبنية النَّصّ، نصّ «كهفي»
هو نصّ له كينونته، وهو يحتاج إلى قراءة شكلانيَّة للكشف عن العناصر الجماليَّة
الفنيَّة المكوِّنة لهذا النَّصّ، لأنَّ القراءة المستندة إلى إنتاج الدَّلالة
ليست قراءة شكلانيَّة بأيّ شكلٍ من الأشكال ولا تتمشكل مع النَّص بما هو نصّ.
التَّأسيس
الأنطولوجي للذَّات لا يمكن أن يبدأ إلّا بالخروج مِنْ سجن الذَّات، والخروج الأهمّ
هو عندما تخرج الذَّات للاتِّصال بذات أخرى في تجربة الحبّ، ومع أنَّنا نخرج عن
ذاتنا باستمرار ونتَّصل بالذَّوات الأخرى في تجربة الاتِّصال الاجتماعيّ، إلّا أنَّ
الذَّوات الأخرى لا تشكِّل لنا سوى مواضيع وأدوات نستعملها لتحقيق ذواتنا المتضمَّنة
في ماهيَّتنا، في الحبّ وحده نتعامل مع الآخر بوصفه ذاتاً وليس موضوعاً، وقد لخَّص
النَّصّ هذا التَّأسيس بالقول:
«لم
أكن قد جئت بعد حين ولدت
كان
يجب أن يمر وقت طويل قبل ذلك
ولقد
علمت منذ ذاك بأنني لن أجيء إلا حين تجيء هي
.......
وذات
يوم انهمر عليَّ حضورها (تلك الَّتي أجيء حين تجيء» (كهفي، ص 79)
وبعد
لحظة التَّأسيس هذه والَّتي هي أشبه بالمصير، تعاود الذَّات ترتيب مسكنها لتأثيثه
بكلّ مفردات المحبوب، وهذا التَّأثيث لا يشمل الحاضر والمستقبل فقط، اللذين
سيمتلئان بالمحبوب، بل إنَّ الذَّات تبادر إلى إعادة إنتاج الماضي وإدخال المحبوب
فيه، حتَّى يصبح متمدِّداً على كلّ لحظات هذا الماضي، ولا تعود الذَّات تدرك زمناً
سابقاً لوجود المحبوب، ولا تعود تتخيَّل أنَّ زماناً مرَّ لم يكن المحبوب فيه
موجوداً.
«هل
قلت مِنْ قبل إنَّني عرفتها في الجامعة؟
إذاً
كلامي لم يكن دقيقاً، فقد عرفتها قبل ذلك بزمنٍ طويل، عرفتها حين كنت طفلاً
ورايتها كثيراً في أحلامي آنذاك، كنت أشبك يدي بيدها ونمضي راكضين إلى أن نجد أنفسنا
في مكانٍ جميلٍ لم نر مثله من قبل ....... كانت معنىً قديماً أزليّاً أبديّاً في أعماقي،
كانت حلماً فاتنا» (كهفي ص 68).
الذَّات
ليست معنىً قبليّاً ماورائيّاً، بل هي صيرورة زمانيَّة معرَّفة ومحدَّدة، واذا كان
تشكُّل الذَّات لا يتمّ إلّا مِنْ خلال سرديَّة، فإنَّ كتابة الحكاية السَّرديَّة
تصبح هنا إنتاجاً للذَّات، فعل الكتابة ليس فعلاً آليّاً يسجِّل ما هو موجود مسبقاً،
بل إنَّ فعل الكتابة هو فعل خلَّاق مبدع، هو الَّذي يبدع الذَّات، فالذَّات هي
بالنِّهاية سرديَّة، ولا ينبغي لها أن تكون غير ذلك، والذَّات الَّتي لا يمكن إنتاجها
على هيأة سرديَّة هي ذات ما ورائيَّة ميتافيزيقيَّة، وهي ذات لا قيمة لها من النَّاحية
الأنطولوجيَّة، وهذا الرَّبط بين الذَّات والسَّرد هو الدَّرس الأهمّ الَّذي نتعلّمه
مِنْ ريكور، والَّذي طمح إلى
الارتقاء به إلى منزلة القانون، والفضيلة الأخرى لريكور أنَّه أحدث ترابطاً
سببيّاً بين النَّظريَّة السَّرديَّة والنَّظريَّة التَّاريخيَّة، فكلّ ما هو
تاريخي (زمانيّ) هو سرديّ بالضَّرورة.
فعل
الكتابة كما نعاينه في «كهفي» هو العودة المتكرِّرة إلى الذَّات، والكتابة
هي الَّتي تمنحنا القدرة على هذه العودة المتكرِّرة بعد كلّ خروج، والخروج هنا هو للإغناء،
وفق نظريَّة الاتِّصال، إنَّ الحافز الوحيد الَّذي يدفع الذَّات للخروج والاتِّصال
هو توسيع دائرة الذَّات واغتنائها، هل أنَّ جوهر الذَّات هو جوهر مفكِّر كما ذهب ديكارت؟،
وهل أنَّ الكتابة ترتقي إلى صميم الممارسة الفكريَّة كما يأمل كلّ الَّذين يكتبون؟
وهل أنَّ إعادة إنتاج التَّجارب الوجوديَّة وإضافتها للذَّات لا يتمّ إلّا عن طريق
الكتابة، عبر التَّجريد؟ يبدو كلّ ذلك بديهيّاً وفق الرِّسالة المبثوثة في نصّ «كهفي»،
فكلّ تجربة وجوديَّة علينا ترميزها وتشفيرها بلغة الذَّات قبل إضافتها إلى مخزون
الذَّات اللامتناهي.
«وبينما
أنا أواصل المشي، أكتب بلا انقطاع، كلّ ما يخطر في بالي بغضّ النَّظر عن قيمته
ومستواه وبلا أدنى انشغال بأسلوب الكتابة، أكتب على الحجارة المتناثرة وعلى جلود
الحيوانات النَّافقة وعظامها وعلى الرِّمال اللاهبة» (كهفي ص 182)
هذه
الكتابة المنغرسة في الوجود، والمضمَّخة بنكهة الطِّين، ليست مؤهَّلة بعد للدّخول
إلى الذَّات والانتظام في تشكّلها، بل هي بحاجة إلى تشفير وترميز بلغة الذَّات حتَّى
تدخل في تكوينها، وهذا الفعل يتمّ لاحقاً، حين تتحوّل كلّ هذه الوقائع إلى سرديَّة،
إلى قصّة كما يعبِّر عنها النَّصّ.
«ولكن
يبدو لي أنَّ الكتابة لم يكن لها فقط الفضل في تقوية عزيمتي على تحمّل مشاقّ رحلة
الصَّحراء، إنَّما قادت خطاي بصورةٍ آمنة في هذه المتاهة كلّها، وهي أيضاً الَّتي
حمتني مِنْ مخاطرها، كما أنَّها هي الَّتي أنقذتني في النِّهاية من الضَّياع فيها
نهائيّاً. فأنا أكتب هذه القصّة الآن مِنْ مكاني المريح والآمن في كهفي العزيز الَّذي
أُبعدت عنه زمناً طويلاً وتهت في أثناء بحثي عنه طويلاً قبل أن أجد الطَّريق إليه...............
لو اكتفيت بالمشي دون الكتابة لما وصلت إلى هنا» (كهفي ص 184).
لن
نحتاج إلى أدلَّة إضافية مِنْ داخل النَّصّ لإثبات أنَّ فعل الكتابة هو الفعل الأقدر
على إنتاج الذَّات، وعلى إعادة إنتاجها مجدَّدا في كلّ محطَّة وجوديَّة تعبرها الذَّات.
الرّجوع
المتكرِّر والدَّائم إلى الذَّات يبدو جوهريّاً بعد كلّ ممارسةٍ متخارجة، ولكن
علينا الانتباه أنَّ الرّجوع لا يتم إلى عين الذَّات في كلّ مرَّة، فالذَّات تتضخَّم
على الدَّوام بعد كلّ عمليَّة رجوع ، حيث نعود إلى ذواتنا في كلّ مرَّة محمَّلين
بكلّ الكنوز الَّتي جنيناها من العالم الخارجيّ، ويبدو أنَّ العودة المتكرِّرة إلى
الذَّات (الكهف) ليست بالعمليَّة الاليَّة السَّهلة، بل هي معاناة وصراع طويل
علينا أن نمرّ به قبل العودة إلى الذَّات والتَّعرف عليها والتَّصالح معها مجدَّداً،
كلّ عودة هي بالضَّرورة مصالحة، لأنَّنا سنجد أمامنا ذاتاً جديدةً في كلّ مرَّة،
وقد أوردنا قبل قليل كيف يعبِّر النَّصّ عن كلّ هذه المعاناة في رحلة العودة إلى
الذَّات.
الذَّات
هي مركز العالم ومركز الأنا في وقتٍ واحد، الذَّات هي الجوهر، والخارج هو الإضافة،
وبالرَّغم مِنْ أنَّ الذَّات لا تقاس بالمعايير الموضوعيَّة إلّا بوصفها قطرة في
بحر الخارج، إلّا أنَّ هذه القطرة هي الأكثر جوهريَّة، لأنها الأكثر يقينية، إنَّها
نحن بالضَّبط، أقصد إنَّها أنا بالضَّبط، ولو خُيِّرنا بأن نمتلك الخارج بأكمله
ونضيفه إلى ذات جديدة تمنح لنا ونحن غير ذاتنا لما وافقنا، فالشَّيء الجوهريّ
والمصيريّ بالنِّسبة لنا هو أن نحافظ على ذاتنا كمسلَّمة أولى، ثمّ نضيف لها ما
نستطيع من الخارج لإغنائها ومساعدتها على التَّمدّد ومضاعفة مساحاتها، وهذا ما
يؤكده نصّ «كهفي» عبر كلّ الفصول. لن نقبل أبداً باستبدال ذواتنا بذوات أخرى
حتَّى لو كانت ذوات أباطرة أو ملوك أو حتَّى آلهة، لأنَّ الاستبدال لا يعني إلّا الفناء.
وهذا يفسِّر لنا هذا العود الابديّ للذَّات في النَّصّ.
ضمن
هذا التَّصوّر فإنَّ المفاجأة الَّتي يقدِّمها لنا النَّص في الصَّفحة الأخيرة لا
تغدو مفاجأةً حقيقيَّة، حيث نعاين النَّصّ وهو يقرِّر أنَّ هذا الكهف الَّذي تدور
فيه الأحداث ما هو إلّا تجويف رأس سعود قبيلات، الشَّخصية الَّتي يقابلها السَّارد
(الذَّات) بعد خروجه من الكهف، ويكتشف أيضاً أنَّ الصَّخرة الَّتي كان يجلس عليها
طوال هذا الوقت ما هي إلّا جمجمة سعود قبيلات والَّذي يصفه بأنَّه تمثال حجريّ، «تركتُ
مكاني لأوَّل مرَّة منذ زمنٍ طويل، وهبطتُ مِنْ جانب الصَّخرة، ونظرتُ إلى أسفلها،
فيا لهول ما اكتشفت، كان ثمَّة إنسان بالفعل في الأسفل، وأكثر مِنْ ذلك أنَّ هذا
الانسان كان سعود قبيلات، الشَّخص المملّ الَّذي سبق أن قابلته على الشَّاطئ والَّذي
بعث قصصه المبتذلة لأقرأها، ليس هذا فحسب، إنَّما اكثر مِنْ ذلك اكتشفت أنَّ الصَّخرة
الَّتي كنت أقيم فوقها منذ مجيئي إلى الكهف لم تكن سوى رأس سعود قبيلات، الَّذي
تبيَّن أنَّه كان موجوداً في الجدول على شكل تمثال حجريّ طوال وجودي فيه» (كهفي ص
256).
هكذا
إذن كان الأمر منذ البداية، سعود قبيلات هو الكائن المتخارج الَّذي يسافر بعيداً
في العالم الخارجيّ ويعيش التَّجارب الوجوديَّة ثمَّ يعود محمَّلاً بكنوزها إلى
الذَّات، حيث تقوم الذَّات بتمثّلها بعمليَّة لا تختلف عن عمليَّة التَّمثيل الضَّوئيّ،
حيث تدمج عناصرها لتصبح مهيَّأة للاندغام مع الذَّات، وخير ما يقوم بهذه المهمَّة
هو الطُّحلب، فهذه هي مهمّته في النِّهاية، إنَّه يمتصّ الشّعاع الآتي من الخارج
ليحوِّله إلى كيانٍ أخضر، وضمن هذا التَّصور فقط نستطيع أن نفهم كيف تتحوَّل الذَّات
إلى طحلب في النَّصّ، ومع أنَّ هذه الخاتمة المفاجئة تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ خاتمات أجاثا
كريستي البوليسيَّة، إلّا أنَّنا سنرى أنَّها نهاية تراجيديَّة ترتقي إلى
مرتبة الضَّرورة بالمفهوم الأرسطيّ للضَّرورة، حيث صراع الأضداد في أعلى
تجلِّياته التراجيديَّة، إنَّه صراع الذَّات والموضوع بوصفهما نقيضين يتصارعان
صراعاً لا هوادة فيه في تشكيل أنانا، والنَّتيجة النِّهائيَّة لهذا الصِّراع ليست
شيئاً آخر سوانا، إنَّ أنانا هي بالضَّبط محصِّلة هذا الصِّراع، هل كان نصّ «كهفي»
موفَّقاً في استجلاء هذه المعادلة ؟، هل استطاع «كهفي» أن يعطي كلَّ رقم في
هذه المعادلة وزنه الحقيقيّ في تشكيل الذَّات أنطولوجياً؟
عندما
أشرنا في عنوان هذه المقاربة إلى التَّأسيس الأنطولوجي للذَّات ، فقد عنينا بالفعل
أنَّ هذا التَّأسيس هو وجوديّ بكل معاني الوجوديَّة، فهو مضمَّخ بنكهة الوجود
العينيّ، وتفوح منه رائحة الطِّين، وهو مرتبط بكلّ المعاني الوجوديَّة للإنسان كالحبّ والحريَّة والكرامة والعار والقلق واليأس
والملل، سنعاين كل هذه المعاني في النَّصّ، ودليلنا في ذلك أنَّ النَّصّ لم يلجأ
إلى هذا التَّأسيس مِنْ خلال الثّنائيَّات الَّتي لن نجد لها أثراً في النَّصّ، لأنَّ
التَّأسيس عبر الثّنائيَّات الضّديَّة هو تأسيس لغويّ تجريديّ يُفقد الذَّات كلَّ
ملامحها الوجوديَّة، وقد وجدنا هذا التأسيس المستند للثّنائيَّات عند بعض أقطاب
الوجوديَّة، وقد اختار قبيلات كما أسلفنا منحى السَّرديَّة الوجوديَّة لاستجلاء
عناصر هذه الذَّات وفك اختامها وأسرارها مِنْ داخل الصَّيرورة الزَّمانيَّة وليس مِنْ
خارجها ومِنْ خلال تجلِّيات السَّرد، الشَّكل الوحيد الممكن للذَّات للإفصاح عن
نفسها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مِنْ حُسن
الحظّ أنَّ نصّ «كهفي» استجاب منذ
المحاولة الأولى وباح بكلّ أسراره وصوامته، فما إن استبدلت كلمة «كهفي» بكلمة «ذاتي» حتى تفتَّحت مغاليق النَّصّ.
- المقال منقول عن: مجلَّة «أفكار»، العدد ع 377، حزيران 2020.