سعود قبيلات ▣
|
مراسم تكريس الشَّيخ عاطف اعطيوي المجالي مِنْ رجال الدِّين المسيحيّ |
لا جديد.. فقد سبق أن فعلوا هذا مع كلّ شخصٍ (أو طرفٍ) أبدى معارضةً حقيقيّة لسياسات النِّظام اللاوطنيّة وفساده وأسلوبه الاستبداديّ في الحكم. ولديهم «ماكينة» متخصِّصة لهذا الغرض، إمكاناتها كبيرة، وتقوم بعملها بشكلٍ ممنهج وحسب التّوجيه السِّياسيّ الرَّسميّ.
وهكذا، فالنَّائب الَّذي قال «طُز» في مواجهة أداء برلمانيّ معيب، وفي مواجهة سلطة اهترأت وأصبحت رائحتها تزكم الأنوف، يُجمَّد ثمّ يُفصل. أمَّا النَّائب الَّذي قال «ندعس على الدّستور مِنْ أجل الملك»، والآخر الَّذي قال «التَّحيَّة لا تؤدَّى للشَّعب الأردنيّ، بل للملك فقط»، لا يُقال لهما إفّاً ولا ينهرهما أحدٌ وأمورهما ماشية تمام التّمام.
الأصل – إذا كُنّا في دولة – أنَّ الدّستور فوق الجميع وأوّلهم الملك، وأنَّ الشَّعب فوق الجميع والجميع في خدمته، بمَنْ فيهم الملك. ويُفتَرَض بالنُّوّاب أن يُدافعوا عن كرامة الدّستور قبل أن يُدافعوا عن كرامة مجلسهم؛ الدّستور أهمّ مِنْ أيّ مجلس أو هيئة في الدّولة، وأهمّ مِنْ أيّ شخص مهما علا منصبه؛ فجميع الهيئات والأشخاص يباشرون أدوارهم ويتولّون مناصبهم بموجب نصّ الدّستور. ومِنْ دون دستور، نكون في غابة وتسود بيننا شريعة غاب.
على أيَّة حال، النّوّاب الحاليّون وصلوا إلى قبّة البرلمان بانتخاباتٍ مطعونٍ في نزاهتها على نطاقٍ واسع، وقد امتنع عن المشاركة فيها ما يزيد على 70% من النَّاخبين. وهذا بالأرقام الرَّسميّة المشكوك فيها وليس بأرقام المعارضين.
وفي ظلّ استمرار السِّياسات الحاليّة المرفوضة شعبيّاً، وعجز النِّظام عن معالجة اختلالاته العميقة، وارتكابه الكثير من الأخطاء (بل الخطايا) والحماقات في المدّة الأخيرة، وآخرها قصّة أسامة العجارمة، فمن المتوقّع أن تكون نسبة المشاركة في الانتخابات القادمة أقلّ بكثير مِنْ نسبة المشاركة في الانتخابات السَّابقة. إنَّها عمليّة آخذة في التَّآكل بلا إبطاء، كما تآكلت، بالتَّرافق معها، القاعدة الاجتماعيّة للنِّظام إلى أن وصلتْ إلى الحضيض. ولقد سبق أن أشرتُ، أكثر مِنْ مرَّة، إلى أنَّ النِّظام يعيش الآن على الأجهزة فقط. وبالتَّأكيد، ما مِنْ نظام (أو شخص) يمكن أن يعيش إلى ما لا نهاية على الأجهزة وحدها.
في العام 2011، منح 111 مِنْ أعضاء مجلس النُّوّاب الثِّقة لحكومة سمير الرِّفاعيّ؛ فسمَّى الشَّعب ذلك المجلس «مجلس الـ 111». وبعد ثلاثة أشهر، أسقط الشَّعب الحكومة في الشِّارع ولم تنفعها أصوات الـ 111 نائباً، وانتهى المجلس سياسيّاً وطويت صفحته. والآن، لا يتذكّره النَّاس إلا بأنَّه مجلس الـ 111.
تُرى، ماذا ستكون التَّسمية الشَّعبيّة الشَّائعة للمجلس الحاليّ؟
مجلس النُّوّاب، في العادة – كما الحكومة – بالنِّسبة للنِّظام الأوتوقراطيّ القائم في بلادنا، مجرَّد حاجز (أو واقي) بين الشَّعب وبين صاحب القرار الفرديّ المطلق؛ حيث من المعتاد تمرير التَّشريعات والقرارات المكروهة شعبيّاً مِنْ خلاله ومِنْ خلال الحكومة، ثمّ يجري تحميل مسؤوليّة هذه التَّشريعات والقرارات لهما (وللشَّعب؛ بزعم أنَّه انتخب النُّوّاب!).. بدلاً مِنْ تحميلها للمسؤول الفعليّ عنها.
ولكن، في ظلّ هذا المشهد النِّيابيّ العجيب، الَّذي تابعه النَّاس مؤخَّراً، هل بقي، حتَّى لو قدر ضئيل من الإمكانيّة، لمجلس النُّواب الحاليّ ليلبِّي حاجة النِّظام إلى حاجزٍ (أو واقٍ) بينه وبين الشَّعب؟ وهذا، طبعاً، ينطبق على الحكومة.
سريعاً سيظهر أنَّ صاحب القرار أصبح هو الَّذي يحمل النُّوّاب والحكومة على كاهله.. بدلاً مِنْ أن يحملاه هما، وسريعاً أيضاً سيظهر أنَّهما أصبحا مجرَّد عبءٍ ثقيلٍ عليه لا مبرِّر عنده للاستمرار في حمله.. فما الَّذي سيجبره، عندئذٍ، على الاستمرار في حمله؟!
فعليّاً، انتهى دور مجلس النُّوّاب الحاليّ. وهذه المرَّة، دخلت اللعبة البرلمانيّة الزَّائفة، بمجملها، في مأزقٍ مستعصٍ سيظلّ يتفاقم بلا توقّف.
لقد اضطرّ النِّظام للسَّحب مجدَّداً مِنْ ما تبقَّى مِنْ رصيده الضَّئيل الضَّئيل لدى الشَّعب، لتغطية تكاليف العمليّة العبثيّة باهظة الثَّمن الَّتي قام بها مِنْ أجل أن يتخلَّص مِنْ نائبٍ جاء به هو نفسه في انتخاباتٍ خضعت للكثير من «الضَّبط» و«الهندسة»َ! فلو كان العقل هو الحَكَم، هل تستحقّ هذه العمليّة ما دُفِع مقابلها مِنْ ثمن؟!
والآن، تحاول «ماكينة» النِّظام حصر المشكلة كلّها في كون تعبيرات أسامة العجارمة وجمهوره منفلتة ولها حواف حادّة ومسنَّنات جارحة؛ بالمختصر، ليست «كيوت» وليست مسيَّسة!
ولكن، مَنْ دمَّر الحياة السِّياسيّة واستبعد المسيَّسين وحاصرهم طوال عقود وبشكلٍ ممنهج؟!
في البداية، تمَّت شيطنة الأحزاب، بل والحزبيّة بمجملها.. على نحوٍ لم يحدث في أيّ بلدٍ آخر في العالم، ثمّ ما إن حَلَّت النَّقابات في الفراغ الَّذي تركته الأحزاب، حتَّى شرعت «الماكينة» إيَّاها بشيطنتها، وجرى عمل كبير وممنهج إلى أن تمَّ إخراجها مِنْ ساحة العمل الوطنيّ وتحييدها. فلم يبقَ سوى العشائر، لتعبِّئ هذا الفراغ، وتعبِّر عن حقوق ومصالح فئات شعبيّة واسعة تمَّ تدمير النَّمط الاقتصاديّ الإنتاجيّ القديم الَّذي كانت تعتاش منه واستُقطِبَتْ بعد ذلك للعمل في أجهزة الدّولة إلى أن جاءت السِّياسات الليبراليّة المتوحِّشة لترمي بها في الشّارع مِنْ دون أيّ وسيلة للعيش الكريم. والآن، شرعت «الماكينة» بشيطنة العشائر تحت ذرائع ومزاعم حداثويّة! أيَّة حداثة هذه الَّتي لا تلحظ، قبل كلّ شيء، أنَّ النِّظام، الَّذي يحكم العشائر ويحكم المجتمع كلّه، هو نظام أوتوقراطيّ قروسطيّ؟! وما الحلّ؟ هل يقترحون شطب الشَّعب كلّه (أو غالبيَّته، على الأقلّ) لكي يرتاح النِّظام؟!
اقرأوا تاريخكم واعرفوا شعبكم؛ فلا يمكن فهم القضايا الاجتماعيّة إلا ضمن ظرفها المحدَّد وواقعها الملموس وليس عبر تعميمات كلاميّة جاهزة: حينما كانت توجد حياة سياسيّة نشيطة، كانت العشائر تقف وراء الأحزاب اليساريّة والقوميّة. وعلى سبيل المثال، في العام 1956 وقفت العشائر – بما في ذلك وجهاؤها – خلف الائتلاف الوطنيّ التَّقدّميّ الَّذي أوصل سليمان النَّابلسيّ وحزبه («الحزب الوطنيّ الاشتراكي») إلى تشكيل الحكومة الوطنيّة. وضمن الكتلة البرلمانيّة لـ«الحزب الوطنيّ الاشتراكيّ» كان العديد مِنْ وجهاء العشائر. ومِنْ هؤلاء، على سبيل المثال، نائب مادبا (منطقتي) الشَّيخ شراري داوود الرّواحنة الَّذي كان وجيهاً عشائريّاً ولم يكن ناشطاً سياسيّاً. وكانت قبيلة العجارمة، الَّتي تتمّ شيطنتها الآن، مِنْ أقرب أنصار سليمان النَّابلسيّ إليه، وظلَّت كذلك لمدّةٍ طويلة.
وأذكر، في أواسط ثمانينيّات القرن الماضي، أنَّ الحزب الشّيوعيّ الأردنيّ، وكان – آنذاك – بقيادة الرَّفيق فائق ورَّاد (أبو محمّد)، أصدر توجيهاً لكوادره وأعضائه بضرورة إجراء اتِّصالات نشيطة مع أبناء العشائر، بمَنْ فيهم الوجهاء، للتَّحدث معهم في أحوال البلاد وما هي الحلول المقترحة لمواجهة سياسات النِّظام الجائرة. كان الحزب – آنذاك – قريباً من النَّاس ويتحسَّس مشاكلهم وهمومهم والتّحوّلات الَّتي تجري على حياتهم. فقد كان له في حينه وجود ملموس من العقبة إلى الرَّمثا وفي النِّقابات العمّاليّة والمهنيّة وحتَّى في بعض الجمعيّات العشائريّة. وكان لي شرف المشاركة في بعض تلك الاتِّصالات.
وبخلاف النِّظام الَّذي منذ قيامه وهو يعيش على افتعال الانقسامات بين مكوِّنات الشَّعب الأردنيّ ويثير الحزازات بينها، العشائر الأردنيّة حريصة على وحدتها ووحدة الشَّعب عموماً، كما أنَّها أكثر رقيّاً من النِّظام وأكثر تحضّراً منه بما لا يُقاس؛ فعشائر الكرك، على سبيل المثال، تختار شيخ مشايخها معاً (مسلمين ومسيحيين)، كتقليدٍ تراثيٍّ قديمٍ متواصلٍ منذ العام 1804 (أي قبل 217 سنة)، ولا يتولَّى «شيخ المشايخ» مهامّه إلا بعد مباركته مِنْ رجال الدِّين المسيحيّ في الكرك يتقدَّمهم الأكثر رتبة بينهم الَّذي يقوم بربط وشاحٍ أحمرٍ حول عنق الشَّيخ كرمز للاعتراف بزعامته.
وفي الصّورة، الموجودة في الأعلى، مراسم تكريس شيخ مشايخ الكرك الحاليّ الشَّيخ عاطف اعطيوي المجالي، على يد رجال الدِّين المسيحيّ في المدينة، في العام 2017. والشَّيخ عاطف رجل وطنيّ وصاحب موقف وليس مجرَّد وجيه عشائريّ.
والآن، أبناء العشائر الَّذين يخرجون إلى الشَّارع ويحتجّون على النِّظام بتعابير ليست «كيوت»، هم ناس مسحوقون ومقهورون، وليسوا وجهاء عشائريين، ولا يقودهم وجهاء عشائريّون، ولا يحفلون برأي الوجهاء العشائريين. الوجهاء معظمهم تحت توجيه النِّظام ويعملون بأوامره، بل هم مِنْ صنعه، ولهم مخصَّصات معلومة تصلهم عبر أجهزته، وكثير منهم يشاركون في الحملات المنسّقة ضدّ أبناء العشائر وتحرّكاتهم الاحتجاجيّة، وهم لا يحظون بأيّ تأييد في أوساط عشائرهم.
يتذرّع المشاركون في الحملة المنسَّقة على تحرّكات أبناء العشائر بلهجتهم المحرِّشة وشكل احتجاجهم غير المنضبط بالمعايير السِّياسيّة التقليديّة، ولكنَّهم يتجاهلون المحتوى الوطنيّ الدِّيمقراطيّ لهذا الكلام ولهذه الاحتجاجات. فبينما يصمت المدافعون عن الأساليب «الكيوت» على سلوكات النِّظام غير «الكيوت»، فإنَّ محتوى احتجاجات أبناء العشائر هو المطالبة بإنهاء الأوتوقراطيّة القروسطيّة والتّحول إلى الدِّيمقراطيّة العصريّة، والتَّوقّف عن تأليه رأس الدّولة ليتحوّل إلى رجل دولة بالمعنى الحديث قابل للنَّقد والمساءلة، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة، وإنهاء التَّبعيّة، وفكّ الارتباط العضويّ للنِّظام مع العدوّ الصّهيونيّ وإلغاء المعاهدات الذَّليلة معه.. ومع الأميركان مؤخّراً.
ثمّ كيف تطلبون من الشَّعب البسيط أن يكون «كيوت»، بينما جماعة السّلطة أشبه بعصابة.. في سرقاتهم ونهبهم، وإدارتهم للدَّولة، وكيدهم اللئيم لخصومهم، وازدرائهم للقوانين والدّستور إلا إذا خدمتهم وخدمت مصالحهم.. الأمر الَّذي عبَّر عنه علناً ومِنْ دون مواربة (ومِنْ دون لهجة «كيوت») النَّائب الَّذي أشرنا إليه في مقدِّمة هذا المقال.
ببساطة، المشكلة في البلاد هي الطبيعة الاوتوقراطيّة الاستبداديّة القروسطيّة للنِّظام، وتبعيّته، وعلاقته الوثيقة بالعدوّ الصّهيونيّ، وتفريطه بالسِّيادة الوطنيّة، وسياساته الليبراليّة المتوحِّشة، وتهميشه لدور الشَّعب وحرمانه مِنْ إدارة شؤون دولته.. وليست أيّ أمرٍ آخر.
ولولا أنَّ الشَّعب الأردنيّ عاقل وحريص على بلده، لكانت البلاد قد انحدرت إلى منزلقٍ خطير منذ مدّةٍ طويلة؛ فالنِّظام ليس راشداً ولا يتعامل بمسؤوليّة في إدارته للدَّولة، كما أنَّه لا يبدي أيّ حرص على أمن البلاد ومستقبلها، وكلّ ما يهمّه هو أمنه الخاصّ، وتوفّر الإمكانيّة له ليستمرّ في نهب ثروات البلاد والسَّمسرة على مواردها وعلى سيادتها واستقلالها.
هذا كلّه، لم يعد مقبولاً من الغالبيّة العظمى من الشَّعب؛ الشَّعب ملّ قيده وذلّه وعبوديَّته، وستتوالى ردود فعله وتتصاعد باستمرار.. سواءٌ منها المنضبط بالأساليب واللغة السِّياسيّة المتعارف عليها، أم غير المنضبط لا بهذه ولا بتلك.. وهذا ليس ذنبه؛ لأنَّه لم يُمنح الفرصة لتشذيب أساليبه ولغته في مدرسة الأحزاب السيّاسيّة. ولذلك، يجب أن تتركَّز جهود جميع القوى الوطنيّة على المشكلة الحقيقيّة وليس على هوامشها وأشكال التَّعبير عنها، وأن تكون الغاية هي الدَّفع باتِّجاه إجراء تغيير وطني ديمقراطيّ عميق.
إنَّ الاستمرار في شيطنة كلّ شخص يبرز في ساحة العمل الوطنيّ، وشيطنة الأحزاب والنَّقابات، وشيطنة العشائر الآن وكلّ البدائل الَّتي قد يلجأ إليها الشَّعب لتأطير نفسه، والاستمرار في تجريف الحياة السِّياسيّة عموماً، وتقييد حرّيّات النَّاس والانتقاص مِنْ حقوقهم الأساسيّة، واعتقال المناضلين الوطنيين على كلماتٍ عبَّروا بها عن آرائهم، وفضّ الاجتماعات الشَّعبيّة الَّتي شرّعها الدّستور واللوائح الدَّوليّة لحقوق الإنسان والمواطن بالقوّة.. ثمّ الإعلان، بخفّة، أنَّ الأمن قد استتب! (أيّ أمن؟!)، وهذا مع مواصلة النِّظام اتِّباع سياساته اللاوطنيّة المرفوضة والمدمِّرة، وإصراره على الاستمرار في فساده واستبداده وتبعيَّته ودوره الوظيفيّ المعيب – إنَّ هذا كلّه سيقود حتماً إلى الانفجار في النِّهاية ثمّ إلى الفوضى.
ويتحمَّل النِّظام وحده المسؤوليّة التَّامّة عن هذا المآل الكارثيّ الَّذي يقود البلاد إليه بلا رويَّة والَّذي نأمل أن لا نصل إليه؛ هذا المآل الَّذي ما مِنْ أحد سيستفيد منه. ولكن، أيضاً، ما مِنْ أحد يمكن أن يجنِّب البلاد سوء عواقبه سوى النِّظام نفسه؛ لأنَّه هو صاحب السّلطة وصاحب القرار والمتحكّم بأجهزة الدَّولة. وما مِنْ حلّ حقيقيّ لهذه المعضلة إلا بالانتقال السِّلميّ، المنظَّم والمتوافَق عليه، من الحكم الفرديّ المطلق القروسطيّ إلى الحكم الوطنيّ الدِّيمقراطيّ العصريّ. الأمر الَّذي يعني في الحالة الأردنيّة الانتقال إلى الملكيّة النِّيابيّة الدِّيمقراطيّة.. وليس «الملكيّة الدّستوريّة»، كما هو شائع.. فلدينا ملكيّة دستوريّة؛ لكنَّها بقالب أوتوقراطيّ.