للوهلة الأولى يرد ضيف أماكن في القلب: لا.
وهنيهات يتساءل: هل السجن يعد من الأماكن التي تقصدينها؟! ويكمل وهل المكان الحلمي.. يمكن اعتباره مكاناً ما؟!
من هنا نستطلع أماكن القاص والكاتب سعود قبيلات الذي يأخذنا إليها عبر تجربته في السجن والمكان الحلمي، وحتى إشكالية علاقته المشتبكة في الجامعة الأردنية كمكان، شعر تجاهه بغربة شديدة في البدء ما لبثت أن أصبحت علاقة حميمة، لتعود إلى غربة مضاعفة.
ولا تستغرب جدلية علاقة قبيلات بالمكان فهو الذي بذل جهده ليتعرف على كل زاويا قريته مليح على مشارف مادبا، ليستعيدها الآن عبر الحنين، فالمشاهد لم تعد هي ذاتها في القرية، إذ أصبحت أقرب إلى كونها مدينة، فأصبح يشعر بالحزن لأنه يعرف كل ما حولها، ولا أماكن جديدة فيها يكتشفها.
وإذ يسافر إلى مصر نجده يبحث عن الناس الذين أحبهم، وقرأ ابداعهم، أو سمع أغنياتهم، «يبدو كنت أعيش فيها حياة أخرى، وزمناً آخر غير الحياة الحقيقية الموجودة الآن كنت أبحث عن كل هؤلاء الذين أحببتهم ولم اجدهم».. يقول قبيلات.
فيما يذهب إلى روسيا في العام 2005 باحثاً عن ثوارها ومبدعيها وكتابها، «وهناك تتبعت خطى الثوار منذ ما قبل ثورة تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 1917، ومروراً بأحداثها الصاخبة ومن ثم بكل مراحل التاريخ السوفياتي».. يتابع قبيلات.
يحلم بزيارة أميركا اللاتينية التي أحبها مما قرأ من أدبها.
نتجول مع أماكن الكاتب القاص سعود قبيلات رئيس رابطة الكتاب الأردنيين، نائب أمين عامّ الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، أصدر عدة مجموعات قصصية منها: في البدء ثم في البدء أيضاً عام 1981، مشي عام 1994، وبعد خراب الحافلة 2002.
كنت أتخيلها أكبر
- كيف هي قريتك مليح في طفولتك، وكيف هي الآن.. في مقارنة من الذاكرة؟ وما الذي تحمله منها؟
أحمل في بالي القرية القديمة، تضاريسها القديمة التي تغيرت جداً مع ازدياد العمران وتطوره ومع تغير مراحل العمر. كثير من الأماكن التي كنت أتخيلها كبيرة، أراها الآن أصغر وأقلّ انحداراً أو صعوداً؛ أو كنت أتخيلها بعيدة، فأجدها الآن أقرب مما كنت أتصورها في الطفولة. طبعاً لا يقتصر الأمر على حدود القرية المأهولة، فقد كنت في طفولتي كثيراً ما أتجوَّل حول قريتي.. لأنَّني كنتُ أجد في نفسي شغفاً لا ينضب لاكتشاف كلّ ما حولها.
وقت الغروب
- الارتباط بالقرية الأولى يعني بشكل ما التعلق أو التعايش مع نباتاتها وكائناتها.. الخ.. هل من ذاكرة بالتفاصيل؟
أشعر بألفة شديدة تجاه أوديتها وصخورها ونباتاتها. أتذكر على سبيل المثال بشكل خاص وساحر عودة قطعان الأغنام وقت الغروب، أتذكر ضجيج أقدامها.. أصوات أجراسها.. نداءات الرعيان.. أصحابها القادمين لاستقبالها.. كما أتذكر عندما كنت أطل على القرية من علٍ مشهد دخان القرية الفاتن، وتتردد في أذني أصوات الناس في القرية وهم ينادون بعضهم بعضاً، لسبب أو لآخر... أتذكر صوت الريح في الشتاء وصوت المطر. كل هذه المشاهد لم تعد كما هي ـ مع الآسف ـ كانت القرية أقرب للاندماج بالطبيعة، الان ابتعدتْ كثيراً عن ذلك أصبحتْ أقرب إلى كونها مدينة، وأصبحتُ أشعر بالحزن لأنني أعرف كل الأماكن حول قريتي، ولا توجد أماكن جديدة يمكن أن أكتشفها.
أماكن تفتقد للحياة
- والارتباط بين الأماكن والأشخاص.. في الذاكرة؟
الارتباط عندي هو بالإنسان وبالتاريخ المتعلق به، فكثيرٌ من الأماكن أحببتها وارتبطتُ بها مِنْ دون أن أزرها أو قبل أن أزورها، ولست من النوع الذي يبحث عن منظر طبيعي جميل لا يحمل أي بعد للإنسان وتاريخه، مثل هذا المشهد الخالي من الارتباط بالإنسان والتاريخ أشبه بصورة فوتوغرافية جامدة، صحيح أنها جميلة، لكنها تفتقد لأهم شيء يمكن أن يشدني إليها، الا وهو الحياة.
وتضيء لي صورة
- الأماكن تغيب في الإبداع الأردني إلى حد كبير، أنت ككاتب كيف توظف الأماكن في ابداعك؟
استخدام المكان في الفن يختلف، قد يتعامل الكاتب مع المكان كما لو كان صورة فوتوغرافية، وبالتالي هو يعكس المظهر الخارجي للمكان، ويصوره في لحظة ثبات وهمية توهم الناظر أو القارئ كما لو كان هذا هو المكان بالمطلق، في حين أن المكان الحقيقي، وهو المكان الحي، أكبر وأشمل وأغنى من هذه الصورة التي عكست لحظة عابرة من حياة هذا المكان، وبالتالي أعتبر هذا النوع من تصوير المكان قاصراً. هناك نوع آخر من التعامل مع المكان في الكتابة وهو محاولة تصوير المكان بتاريخيته، وباشتباكه مع مشاعر الكاتب، ومشاعر شخصياته، وتحويله بالتالي الى نوع من الشحنة العاطفية التي تنتظر أن يتماس معها القارئ أو المتلقي بصورة مرهفة لتفجِّر مشاعر هذا القارئ وتضيء له صورة نفسه وصورة العالم من حوله.
أحاول أن أتعامل مع المكان بفنيته، المكان الذي هو جزء عضوي من العمل الفني، المكان الذي يحمل فكرة إنسانية عميقة، المكان الذي يحرك شعوراً إنسانيّاً دفيناً.
لا تجدين في كثير من الأحيان المكان في قصصي كما يتخيله القارئ العادي، نعم كتبت العديد من القصص التي تصور تفاصيل المكان، في فترة زمنية محددة لكن هذا الأسلوب من التصوير الذي استخدمته في تلك القصص ينطوي على كثير من الخداع الى حد ان القارئ غير المدقق قد يقول: ما هذه الثرثرة الزائدة؟ أو ما شأني بهذه التفاصيل التي يسردها الكاتب؟
والحقيقة أن هذه التفاصيل تنطوي على شحنة شعورية، تحتاج أن يتماس معها القارئ بالاستناد إلى خبراته الشعورية عن بلدان أخرى، كما تحتاج إلى أفكاره وتصوراته كي يصل من خلالها إلى موقف شعوري وفكري خاص به. ومن هذه القصص ما كتبته عن أماكن بأسماء صريحة في عمان، وفي مليح وفي العقبة وفي غيرها من الأماكن الأردنية.
الجامعة بين غربتين
- بعض الأماكن قد تمر بها حاليا ولا تصدق أنك كنت فيها في يوم من الأيام ليس ببعيد، وتقول كأن ذلك المكان لم يحتضني يوماً!! ما هو هذا المكان ولماذا؟
من هذه الأماكن التي شعرت تجاهها على هذا النحو بقوة الجامعة الأردنية، أنا درست فيها، وأذكر أنني في أول فصل من دراستي فيها شعرت بغربة شديدة وثقيلة جداّ، ثم بعد ذلك اندمجت إلى أبعد حد في الحياة الجامعية، أحببت تلك الحياة إلى حد أنني كنت أتمنَّى جداً أن يتأخر موعد تخرجي، وفي السنة الأخيرة من دراستي سجنت، وعندما خرجت وعدت إلى الجامعة لأكمل دراستي كان انطباعي مختلفاً، كنت أشعر بأني غريب جداً عنها، وكنت أرغب في التخرج في أسرع وقت.
كان ثمة جيل آخر موجود في الجامعة له حياته وله نمط تفكيره، أما جيلي فكان قد غادر مقاعد الدراسة منذ زمن بعيد وانهمك في ميمعان العمل، وكوَّن اسراً انغمس في همومها. كنت وقتها لا من هؤلاء ولا من أولئك. ومؤخراً زرت الجامعة أكثر من مرة للمشاركة في اللجنة المشرفة على المؤتمر الثقافي الذي عقدته الجامعة الأردنية، كنت أذهب مباشرة الى مكان الاجتماع، وأعود منه مباشرة غير قادر على تصور أن هذا المكان هو نفسه الذي كان الأشد ألفة لي والذي كنتُ لا أحب مغادرته حتَّى بعد انتهاء الدوام.
بين مصر وروسيا!
- بعض الأماكن نسمع بها أو نقرأ عنها فنتيم بها، وعندما نزورها لا نجدها كما هي في خيالنا، هل حدث هذا معك؟
الحقيقة هنالك مكانان أولهما مصر، كانت في ذهني مصر الناصرية ومصر أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ورياض السنباطي وبليغ حمدي وزكريا أحمد، واحمد بيرم التونسي، وحين ذهبت إلى مصر لأول مرة عام 1998 كنت مسروراً بزيارتها، ولكنني فيما يبدو كنت أعيش فيها حياة أخرى، وزمناً آخر غير الحياة الحقيقيّة الموجودة الآن.. كنت أبحث عن كل أولئك الذين احببتهم مِنْ بعيد.
المكان الثاني هو روسيا، لقد زرت موسكو وسان بطرسبورغ (لينينغراد سابقاً) للمرة الأولى عام 2005 وهناك كنت أبحث عن الاتحاد السوفياتي، أتخيل أنني ذاهب للقاء لينين ومكسيم غوركي وغيرهما، يبدو أنني لم أكن أرى سوى هؤلاء هناك، بل كنت أبحث قبل ذلك عن رموز الأدب الروسي من العمالقة أمثال: تولستوي، تشيخوف، غوغول، بوشكين وسواهم كثيرون.
في البداية لم أكن راغبا ًبالذهاب إلى روسيا لأنني لم أكن أريد أن أرى انهيار الحلم السوفياتي هناك، ولكن أخي عبد السلام الذي يعيش في سان بطرسبورغ ألح علي لحضور مناقشة رسالة الدكتوراه التي قدمها هناك في الإخراج المسرحي، وعندما ذهبت أحببت تلك البلاد أنا لا أتعامل مع الأماكن بمعزل عن تاريخها، وهناك تتبعت خطى الثوار منذ ما قبل ثور ة تشرين أول (أكتوبر) عام 1917، ومروراً بأحداثها الصاخبة ومن ثم بكل مراحل التاريخ السوفياتي واشتباكه مع التاريخ العالمي، ومع تاريخ منطقتنا على وجه الخصوص.
مكان الحلم وناسه
- أمـاكن لدينـا عنها انطباعـات، وإن لـم نزرهـا يومـاً ولم نقصـدها وثمة أمـاكن زرناها وتـركت فينا خصـوصية مختـلفة، بعض الأماكن تحتل قصبتنا الهوائية، نتنفس عشقها فتجتـاح ما بين القصبة الهوائية والعالم، ما هي أماكنك هذه؟
هذا المكان كنت أشاهده كثيراً في أحلامي منذ الطفولة الى أن أصبحت كبيراً كتبت عنه قبل سنوات، ولم أعد اشاهده بعدها، هو مكان في منتصف سفح هضبة في قريتي مليح أكون واقفاً فأجد أمامي حفرة أنزل فيها، وانا أعرف أن ثمة مكان آخر يقودني إليه الطريق، فأجد مكاناً واسعاً جداً شبه أثري، ولكنه ليس مهجوراً.. فيه حياة ذات طابع أثري لا تنتمي إلى العالم الخارجي، وفيه ناس أشعر أنهم قريبون إلى نفسي رغم أنّي لا أعرفهم.
- وماذا كانت نهاية الحلم؟
كان هذا الحلم دائماً ينتهي قبل أن أكتشف جميع معالم الكهف، وأحس بأن أهم ما فيه هو ما لم اكتشفه، تكرر ذلك الحلم كثيراً في منامي على هذه الصورة، ولكن بعدما كتبت عنه أصبح قلما يأتي.
- أنادم على كتابة حلمك؟
لست نادماً، أشعر بأنَّه كان عليَّ أن أكتبه.
- ثمة مدن تسـتهوينا تناسـبنا تؤرقـنا ثمة مـدن وجهها خيـر وأخرى... ما هي مدينتك الأكثر قرباً ولماذا؟
إنها مدينة سان بطرسبورغ، وجدتها مدينة جميلة، عبارة عن متحف، شعرت أنها أليفة لي، ربما لأنني تعايشت معها من خلال تشيخوف ودوستويفسكي، وقراءاتي المتنوعة والكثيرة عن الثورة السوفياتية.
غير معزولة!
- ثمـة أماكن نهـواها بالفطـرة وأخرى نهواها لأسـباب ربما لو كنا دقيقــين في بحـثنا عنها لوجـدناها. في دواخـلنا.. أماكـن في القلب ما هو مكانك الفطري؟
الحقيقة لا أظن أن هناك مكاناً يمكن أن نحبه بالفطرة. وإذا عُدتُ إلى علاقتي بالأماكن، أجد أنها غير معزولة عن الإنسان وتاريخه. وهذا الأمر له علاقة أيضاً بخبرتنا الحياتية والشعورية، وبتجربتنا الفكرية.
مليح
- ما المكان الذي يتربع في قلبك؟
بالتأكيد، قريتي مليح.
- هنالك أماكنَ من النادر أن يذهب إليها العامة، وإن ذهبوا إليها فلأنه سمح لهم بالذهاب اليها، بشكل خاص، ما هو هذا المكان؟
لا أذكر أنني ذهبت إلى مكان من هذا النوع، ربما لأنني لا أحب الأماكن المغلقة، أو التي يقتصر دخولها على بعض الناس. ربما كان هذا النوع من المكان في تجربتي هو السجن، فهو المكان الذي يُرسَل إليه بعض الناس وليس جميعهم.
الأماكن التي أحبّها
- ما المكان الأردني الذي لم تزره بعد؟ اختر مكاناً أردنياً، ومكاناً عربياً، وآخر أجنبيّاً ترك أثراً في قلبك/ روحك/ إبداعك؟ ولماذا؟
تقريباً زرت كل الأماكن الأردنية المعروفة، ومع ذلك أحب زيارة الكثير منها مجدَّداً. أردنيا: أحبّ البتراء، فهي من الأماكن التي أحب ان أكرر زيارتي لها، أشعر أنها ـ الى حد ما ـ تشبه المكان الحلمي الذي كنت أزوره في باطن الأرض. عربياً: أحب أن أزور مصر دائماً، وأيضاً أحب زيارة سوريا كثيراً.
خارج العالم العربي: أحب زيارة أميركا اللاتينية، التي طالما تتبعت في خيالي خطى ثوارها وأدبائها.
صعب أن أعيش خارج بلادي
- لو أُتيحت لك فرصة اختيار مكان لتعيش فيه. فأي الأماكن تختار؟
أعتقد أنَّني لا أستطيع أن أعيش لمدة تزيد عن شهر في أيّ مكان غير بلادي، وسابقاً أُتيحت لي الفرصة بإلحاح وإغراء كبيرين لأعيش في بلدان أخرى، ولم يكن سهلاً عليَّ أن أوافق على ذلك.
ــــــــــــــــــــــ
العنوان الأصليّ للحوار، كما نُشِرَ في الرَّأي، هو: سعود قبيلات يستعيد اغترابه.. مليح تتربَّع في قلبي وتذكِّرني بنداءات الرِّعيان وصوت المطر.