ترجَّل سعدي يوسف عن صهوة هذه الفانية، في لندن، صباح أمس الأحد 13 حزيران/يونيو 2021، وهو رمزٌ كبير مِنْ رموز الأدب العراقيّ والعربيّ والعالميّ. وبالتَّأكيد فإنَّ الموت لن يطوِ اسمه وإنجازه الإبداعيّ؛ بل سيبقى، بهويَّته الإبداعيَّة المميَّزة، علامةً فارقة مِنْ علامات الأدب الرَّفيع.
يعجبني في قصيدة سعدي يوسف أنَّها مشغولة جيِّداً؛ أبعادها محسوبة، وكلماتها منتقاة، وشكلها مدروس. ومع ذلك، فثمَّة مساحة كافية فيها للعاطفة الصَّادقة، وأخرى للوعي واللاوعي.
إنَّها القصيدة الأقرب، عربيّاً، إلى تكنيك هيمنجواي (في الرِّواية والقصَّة) المعروف بتكنيك «جبل الجليد العائم»؛ حيث لا يظهر من الجبل سوى خُمْسُه، أمَّا الأخماس الأربعة الأخرى فمخفيَّة تحت سطح الماء. وهنا، يترتَّب على الرَّائي الحصيف والواعي أنْ يبني صورة هذه الأخماس الأربعة المخفيَّة بوساطة خياله، وبالاستناد إلى وعيه وخبرته الحياتيَّة والشّعوريَّة.
وبالتَّأكيد، فإنَّ دور اللاوعي، هنا، سيكون مهمّاً في بناء الصّورة النِّهائيَّة. الأمر الَّذي يقود القارئ إلى أنْ يكون مشاركاً في تأليف العمل الأدبيّ، وإلى أن تكون علاقته (وعلاقة الكاتب) بالعمل الأدبيّ، في النِّهاية، أشبه بعلاقة المفحوص النَّفسيّ بأحد الاختبارات النَّفسيَّة الإسقاطيَّة؛ حيث كلّ ما يقوله (وما يتجنَّب قوله) يساهم في إلقاء الضَّوء على شخصيَّته وخبرته الحياتيَّة والنَّفسيَّة.
وقصيدة سعدي يوسف، لذلك، تتميَّز بالتَّكثيف والتَّشذيب والاقتصاد في المفردات؛ فهذا كلّه مهمّ لضمان أكبر قدر من التَّأثير في المتلقِّي والحيلولة دون دخول أيَّة عوامل عشوائيَّة غير محسوبة في صلب هذه العمليَّة الحسَّاسة.
وتتميَّز قصيدة سعدي يوسف كذلك بمفرداتها البسيطة، البعيدة عن التَّفخيم والبهرجة والزَّخرفة؛ ما يسهِّل على المتلقِّي أنْ يتفاعل مع بنيتها المركَّبة مباشرة ومِنْ دون عوائق.
وهذه القصيدة، تتميَّز، أيضاً، بخلوِّها من البلاغة السَّطحيَّة الجوفاء ومن الشِّعريَّة بمفهومها التَّقليديّ السَّاذج، وبتجنّبها للصّراخ والاستعراض المبتذل للعواطف واستجداء تعاطف المتلقِّي بأسلوب مباشر ورخيص. وهي أمور شائعة، مع الأسف في الكتابة العربيَّة، ولذلك فقد تعمَّدتُ إيضاح العلاقة السَّلبيَّة لقصيدة سعدي يوسف بها. وهو ما يعدّ مِنْ إيجابيَّات تلك القصيدة.
ولقد مرَّت قصيدة سعدي يوسف عموماً، مثل كلّ كائن حيّ، بالكثير من التَّجارب والتَّطوّرات والمراحل إلى أنْ وصلتْ إلى صورتها المميَّزة الحاليَّة. وهذا أمر طبيعيّ ومفيد؛ خصوصاً إذا كانت تجربة الأديب تملك قدراً كافياً من الأصالة، ومن الجديَّة، وإذا كان الأديب يتوفَّر على قدرٍ كافٍ من الإخلاص لفنِّه؛ فيعتني به، ويرعاه، ويواظب على تنميته وتطويره، ويسنده باستمرار بالعدَّة الثَّقافيَّة والفنِّيَّة الضَّروريَّة.
وهذه جوانب واضحة تماماً عند سعدي يوسف؛ فهو صاحب تجربة حياتيَّة، وسياسيَّة، وشعريَّة، غنيَّة. كما أنَّه معروف بمواظبته على تنمية حصيلته الثَّقافيَّة باستمرار في المجال الأدبيّ والسِّياسيّ والفكريّ. بل إنَّه علَّم نفسه بنفسه اللغة الإنجليزيَّة وأتقنها ليتمكَّن من الاطِّلاع بصورة أوسع على مختلف التجارب والأفكار والثقافات الإنسانيَّة، ثمَّ قام بعد ذلك بترجمة العديد من الأعمال الشِّعريَّة المميَّزة (ديوان «أوراق العشب»، على سبيل المثال، لـ«والت وايتمان»، وديوان ريتسوس، وديوان فلاديمير مولان.. الخ)، كما كانت له ترجمات أخرى في المجالات الأدبيَّة والفكريَّة والسِّياسيَّة المختلفة، ومنها ترجمته لأعمال المفكرِّة والمناضلة الماركسيَّة الشَّهيرة روزا لكسمبورغ، بالإضافة إلى ترجمته ما كُتِبَ عن قصَّة اغتيالها على يد الشّرطة في أحد السّجون الألمانيَّة في أواخر العقد الثَّاني من القرن الماضي.
ومن الواضح أنَّ سعدي يوسف يتعامل مع قصيدته بمنتهى الجدّ والعناية والمثابرة؛ فيمنحها الجهد اللازم، والوقت الكافي، لتنضج وتتخلَّص مِنْ عيوبها وسلبيَّاتها، وهي العيوب والسَّلبيَّات الَّتي تتَّصل بكلّ ولادة طبيعيَّة؛ فبعد الولادة، تأتي مرحلة الرِّعاية والتَّهذيب والتَّقويم الصَّقل؛ وإلا فإنَّ المولود يمكن أنْ يكون مخيِّباً للآمال.
وما يشير إلى إتِّباع سعدي يوسف هذا الأسلوب (الولادة الطَّبيعيَّة ثمَّ العناية والرِّعاية.. الخ) هو أنَّ قصيدته، رغم كونها مشغولة جيِّداً، فإنَّها تنطوي على دفقة عاطفيَّة حقيقيَّة وصادقة؛ هي، بلا شكّ، الدَّفقة الَّتي تكون قد رافقت مرحلة الولادة الطَّبيعيَّة للقصيدة قبل أن تعيد صياغتها يد الفنَّان الماهرة والمتمرِّسة.
قوائم «التَّحرير» السَّوداء
ويعجبني في سعدي يوسف، نفسه، الشَّاعر والإنسان والمناضل، ثباته على مبدئه.. في كلّ الظّروف والأحوال، ورغم كلّ ما مرّ به مِنْ تقلّبات الزَّمان ومصاعبه؛ رغم السِّجن والاضطهاد والمنفى الطَّويل؛ ورغم الضّغوطات والمغريات؛ ورغم الانهيارات والارتدادات الَّتي شهدها العالم خلال العقود الأخيرة.
نعم، رغم ذلك كلّه، ظلَّ سعدي يوسف كما هو، متمسِّكاً بقيمه وأخلاقه ومبادئه، ومدافعاً عنها، ومقاتلاً في سبيلها.. بجرأة وشجاعة ومثابرة.
ويُحسَبْ له، على وجه الخصوص، أنَّ أحداث العقود الأخيرة الجسام، الَّتي جرفتْ في طريقها كثيرين من الَّذين تبيَّن أنَّ معدنهم لم يكن أصيلاً، لم تتمكَّن مِنْ حرفه عن طريقه، ولم تغيِّر في قناعاته، ولم تثبِّط عزيمته، بل إنَّه ازداد معها مضاءً وضراوةً وثباتاً وصلابةً، واشتدَّ أوار كفاحه وتضاعف عزمه.. ربَّما لأنَّه أراد أنْ يعوِّض أدوار أولئك الَّذين أخلوا مواقعهم، ورفعوا الرَّايات البيضاء أو حملوا رايات الأعداء بدلاً مِنْ راياتهم.
حقّاً، إنَّ الظّروف الصَّعبة تكشف معادن الرِّجال؛ فيصدأ ما هو زائف منها ويتآكل، بينما ينصقل ما هو أصيل ويزداد متانة ولمعاناً.
ومَنْ تابَعَ مقالات سعدي يوسف وأشعاره خلال العقدين الماضيين، خصوصاً بعد احتلال الولايات المتَّحدة للعراق، يعرف مِنْ أيِّ معدنٍ هو وما الَّذي أصبح عليه بعد كلّ هذه السِّنين والحادثات، ويعرف أيضاً ما الَّذي عنيته بالضَّبط عندما وصفتُ كفاحه الآن بالقتال.
إنَّه لا يجامل أحداً، ولا يماري، ولا يواري أحاسيسه وانطباعاته. يضع كلاً في حجمه الحقيقيّ، ويصفه بما يستحقّ من الصِّفات. والمعيار الثَّابت لديه في موقفه مِنْ أيّ إنسانٍ ليس قربه الشَّخصيّ منه أو بعده عنه، في السَّابق أو في الحاضر، بل طبيعة موقف هذا الشَّخص من الاحتلال الأميركيّ لبلاده؛ تعاونه معه أو تواطؤه لصالحه، أو مقاومته له.
ولقد بدأ سعدي يخوض قتاله الشَّرس، هذا، إبَّان التَّحضيرات العلنيَّة للهجوم على العراق؛ لذلك، فقد بدأ المتضرِّرون مِنْ هجماته بشنّ حملاتهم مبكِّراً عليه.
وفي هذا السِّياق، يكفي أنْ أشير إلى أنَّ صحيفة «المؤتمر»، الَّتي كانت تتبع للمصرفيّ (والسِّياسيّ) العراقيّ أحمد الجلبيّ وكانت تصدر في لندن (بأموال دافع الضَّريبة الأميركيّ، بحسب تعبير سعدي)، قد دعتْ إلى منع سعدي يوسف مِنْ دخول العراق بعد «التَّحرير» الَّذي كان من المنتظر – بالنِّسبة لها – أنْ يتمّ على يد القوَّات الأميركيَّة.
كتب سعدي بتاريخ 1/3/2003 مقالاً بعنوان «رسالة مبكِّرة إلى الجنرال تومي فرانكس» ردَّ فيه على ذلك المقال «الدِّيمقراطيّ» جدّاً، الَّذي سبق أن أشرنا إليه، متهكِّماً على أولئك الَّذين كانوا يحضِّرون قوائمهم السَّوداء، قبل أنْ تطأ أقدامهم أرض العراق. وقد ضمَّتْ تلك القوائم أسماء 2000 مثقَّف عراقيّ، آنذاك، ومِنْ ضمنهم سعدي يوسف، نفسه، طبعاً، بهدف منعهم مِنْ دخول العراق بعد «التَّحرير».
في ما بعد.. أعني بعد «التَّحرير»، كرَّس سعدي يوسف قلمه للدِّفاع عن شعبه «المحرَّر»، ولكشف حقيقة «المحرِّرين»:
«في وطني الآن الرَّعد
الطَّيران الأميركيّ
وبالحاوية العنقوديَّة
كما شاهدنا في بيروت زماناً
ينقضّ على الكوفة
الطَّيران الأميركيّ
الليلة ينقضُّ عليَّ الآن».
ثمَّ يتلفَّتْ حوله، فيجد أنَّ كثيراً مِنْ أصدقائه قد غادروا الخندق الَّذي كان يجمعهم به ويجمعه بهم، فيطلق صرخته الطَّويلة كذئبٍ جريحٍ وحيد:
«يا ليل يا صاحبي ما أوحش الوحدة
أطبقتَ يا ليل حتَّى ماتت الوردة
وارتدَّ مَنْ كان مجبولاً على الردَّة
لكنَّ صوتي سيبقى للصَّدى وحده».
نيران جهنَّم
وهكذا، فقد انصبَّتْ نيران جهنَّم على سعدي يوسف بعدما كان بالأمس يحظى بالرِّضا والاستحسان ويُعتبر (كما كان، بحق، ولا يزال) مناضلاً شجاعا وشاعراً كبيراً، عندما كان معارضاً للنِّظام الَّذي كان قائماً قبل الاحتلال.
في المنطق الشَّكليّ (والنَّفعيّ) القاصر لأولئك، كان يجب على سعدي يوسف أنْ يقبِّل أيدي الغزاة الَّذين احتلّوا بلاده؛ لأنَّهم أطاحوا بالنِّظام الَّذي كان يعارضه.. النِّظام الَّذي اضطهده واضطرّه لمغادرة وطنه. وحيث أنَّه لم يفعل، بل واصل السَّير وفق منطقه الكفاحيّ الثَّوريّ، وجهر بمعارضته لاحتلال بلاده وتدميرها ونهب ثرواتها والبطش بأبنائها، فقد أصبح في عرف هؤلاء كاتب «ايروتيكا سياسيَّة»، و«شيخاً خرفاً»، بل إنَّ بعضهم كتب يهاجمه تحت عنوان «عودة الشَّيخ إلى صباه».
وفي هذا السِّياق نفسه، راح البعض يعيد كتابة سيرة سعدي يوسف، مِنْ جديد، ليجرِّده مِنْ كلّ تاريخه النِّضاليّ.
وتطاول بعضهم على أدبه، فقلَّل مِنْ قيمته الإبداعيَّة.. بصورة متعسِّفة.
واتَّهمه البعض، بأثرٍ رجعيّ، وبغير وجه حق، بأنَّه كان ممالئاً للنِّظام الَّذي كان قائماً قبل الاحتلال، مع أنَّه كان طوال أكثر مِنْ ثلاثين سنة على خصومة بيِّنة مع ذلك النِّظام، وكان طوال تلك المدَّة يعيش خارج العراق.
البعض قال إنَّه كان داعية للحريَّة والدِّيمقراطيَّة ولكنَّه تنكَّر لهما بعد حصول «التَّحرير»، وحلول «الدِّيمقراطيَّة» في العراق.
البعض اتَّهمه بأنَّه مجرَّد شخص متكلِّس، متحجِّر، سجن نفسه في الماضي البائد فلم يفهم كيف أنَّ الإمبرياليّين أصبحوا محرِّرين وأنصاراً للشّعوب المقهورة والمضطَهَدة.
وبالمقابل، فإنَّ بعض مَنْ حيُّوا كفاحه ضدّ الاحتلال الأميركيّ وأعوانه، عابوا عليه معارضته في السَّابق للنِّظام الَّذي كان قائماً قبل الاحتلال. وكأنَّهم يشترطون عليه لكي يمنحوه صكّ غفرانهم الَّذي لم يطلبه، أنْ يتنكَّر لتاريخه ومواقفه ومبادئه، بينما هذا التَّاريخ بالذَّات، وهذه المواقف والمبادئ نفسها، هي ما يمنحه الصّدقيَّة ويجعل موقفه مميَّزاً عن سواه.
والأعجب مِنْ ذلك كلّه، هو أنَّ بعض هؤلاء أخذ عليه أنَّه قال بعد الانهيارات المدوِّية في التِّسعينيَّات، وبعد الاحتلال الأميركيّ للعراق: «وتبقى رايتي حمراء». وأنَّه قال أيضاً: «إنَّني الشّيوعيّ الأخير».
إنَّهم، بلا شكّ، لا يدركون الرَّابط الجدليّ المتين بين تمسّكه برايته وبهويَّته الفكريَّة والسِّياسيَّة وبين رفضه للاحتلال ومقاومته له. فتحتَ هذه الرَّاية، نفسها، وفي إطار التزامه بالهويَّة السِّياسيَّة، نفسها، أيضاً، كان سعدي قد حدَّد موقفه منذ زمنٍ بعيد:
«حيث لا يخفقُ العلَمُ الأميركيُّ، تجلسُ
حيث الجذور المعرَّاةُ، تجلسُ
حيث الحدائقُ ليليةٌ، والحماقات يوميَّة، تجلسُ
حيث لا تُشْتَرى
حيث لا تشتري غيرَ خبزكَ
أنتَ، إذن، تجلسُ...».
فما ذنبه إذا كان بعض أصحابه قد غيَّروا جلودهم خلال العقدين الأخيرين، وزاغتْ أبصارهم، وفقدوا رباطة جأشهم، واُستُبدِلتْ المعاني في مفرداتهم؛ بحيث أنَّهم وهم ينكصون على أعقابهم ظلّوا يدَّعون استمرارهم في السَّير إلى الأمام وعلى الطَّريق نفسه!
ولقد كنتُ، طوال العقود الأخيرة، أتأمَّل باندهاش وأسى تقلُّبات البعض وانقلاباتهم، وانفلاتهم على غير هدى مِنْ مداراتهم، وتعثُّر خطواتهم، وحماسهم الغريب لهدم جميع الأبنية الجميلة الَّتي ساهموا في بنائها في السَّابق وكانوا يفيئون إلى ظلِّها ويتغنُّون بجمالها، ثمَّ ما لبثوا أنْ أعملوا معاول هدمهم فيها، وفي النِّهاية جلسوا على أنقاضها وهم يتصايحون مطالبين بما يظنُّون أنَّهم يستحقُّونه، لقاء ذلك، مِنْ مكافآت عدوّ الأمس.. صديق اليوم.
وكنتُ (ولا أزال) أنظر إلى هذه المفارقة المأساويَّة الفادحة، فأرى فيها ما هو أبعد مِنْ بعدها السِّياسيّ (والأخلاقيّ)؛ أي ما تشير إليه وما تتضمَّنه مِنْ مفارقات الوجود الإنسانيّ وعجائب مآلاته ومصائره.
ولكنَّني، مِنْ جهة أخرى، كنتُ أيضاً (ولا أزال) أبتهج بما أصادفه، في أثناء ذلك، مِنْ نماذج الثَّبات والشَّجاعة والتَّمسُّك بالمبادئ والقيم الإنسانيَّة؛ بل وأكثر مِنْ ذلك، التَّمسّك بالكرامة الإنسانيَّة. فهذه النَّماذج هي الَّتي تُعلي مِنْ قيمة الإنسان وتحول دون إعادته بصورة كاملة إلى سوق النِّخاسة، أو إلى سوق العرض والطَّلب.. إذا شئنا استخدام تعبير عصريّ (وليبراليّ تماماً). هذه النَّماذج هي الَّتي تثبتُ أنَّ جذر الإنسانيَّة العميق والمتين هو الكرامة والأنفة والكبرياء والشَّرف.
ومِنْ حسن حظِّنا، نحن محبي شعر سعدي يوسف، أنَّ الانكسارات والانهيارات والهزائم الكبرى في العقود الأخيرة، أثبتتْ أنَّ شاعرنا الكبير، والجميل، والمتألِّق، عصيٌّ على التَّدجين والتَّركيع والإخصاء والبيع والشِّراء. فالشعر، كما سبق وقلت في أكثر مِنْ مقام، ليس هو فقط ما يبدعه الشَّاعر مِنْ قصائد، وإنَّما أيضاً مجمل حياته الَّتي يجب أنْ تكون هي قصيدته الكبرى والأساسيّة؛ إذ حين تخون حياة الشَّاعر شعره، يفقد الشِّعر الكثير مِنْ ألقه ومِنْ أهميَّته ومِنْ صدقيَّته.
سعدي وأصدقاؤه الأردنيُّون
التقيت بالشَّاعر الكبير سعدي يوسف مرَّةً واحدة تقريباً، وكان ذلك في العام 1987 حينما قدم إلى عمَّان في أوَّل زياراته لها ليتسلَّم جائزة «عرار» مِنْ رابطة الكتَّاب الأردنيّين. أخذناه عصراً في جولة في أرجاء عمَّان وضواحيها، صديقي ورفيقي القديم الرَّاحل عصام التَّل وأنا.
وفي مساء اليوم نفسه، كانت قد أُعدَّتْ على شرفه حفلة عشاء، في بيت صديقنا (الشَّهيد، لاحقاً) ناهض حتَّر، حضرها جمعٌ من الكُتّاب والأدباء، أذكر منهم: الرَّاحل مؤنس الرزَّاز، والرَّاحل عدي مدانات وشقيقه عدنان مدانات، وهاشم غرايبة، وعصام التَّل، ويوسف عبد العزيز، وعمر شبانة، ومحمَّد هاشم.. الأديب المصريّ وصاحب دار مريت للنَّشر حاليّاً، وكاتب هذه السّطور.
وأخبرنا سعدي، في تلك الجلسة اللطيفة، بأنَّه نزل في الصَّباح الباكر إلى «البلد» (وسط مدينة عمَّان)، وراح يتأمَّل العمَّال وهم ينطلقون إلى أعمالهم، والمدينة وهي تستيقظ شيئاً فشيئاً. وقال بأنَّه تعوَّد أنْ يتعرَّف هكذا على المدن الَّتي يزورها لأوَّل مرَّة، وأنَّ هذه الطَّريقة برايه هي الأنسب لذلك.
ولكنَّه استدرك، قائلاً، بأنَّه عرف عمَّان والأردن منذ زمنٍ بعيدٍ، وقبل أنْ يراهما. وأوضح بأنَّه كان معجباً آنذاك بعرار ثمَّ، في ما بعد، بعبد الرحيم عمر. وكان كتاب أعماله الشِّعريَّة، الصَّادر في العام 1979 عن دار الفارابيّ، موجوداً، فتناوله وقلَّب صفحاته، وأشَّر لنا على قصيدة عموديَّة في نهاياته، قال إنَّها تؤكِّد ما قاله عن معرفته القديمة بعمَّان وبالأردن، وإعجابه القديم أيضاً بعرار.
والقصيدة بعنوان «التي مِنْ عمَّان». ويعود تاريخها إلى 16/10/1953. وهي مِنْ ضمن ديوانه «أغنيات ليست للآخرين»، ويقول فيها، بأسلوبٍ يشبه أسلوب عرار:
«ســـلَّمتِ! يا أهــــــلاً بجارتنا يا مرحـــــباً بفتاة غسَّــــــان
بالمـــــــوج في الأردنّ يدفعه مِنْ صــــدركِ الملفوف نهدانِ
مِنْ أيّ أشـــــــذاءٍ أتيـــتِ لنا فغمرتِ بالأشـــــذاءِ أحزاني؟
مِنْ ضيعةٍ في الســـــَّلطِ نائيةِ أم مِنْ قريةٍ في سفح شيحانِ
أغلقت بابَ الحانِ، ليـــس لنا بعد العــيون الخضر مِنْ حانِ
لا اربدُ الخضــــــراءُ ناعمــةً بالأبيــض الزحليّ تلـــــــقاني
جذلى، ولا شفةٌ تطــوف على كأسٍ ولا همــــــساتُ ندمــانِ
نام الســــقاة فليس يوقظــهم إلا ندىً وشـــــــــــذىً وعينانِ
واليوم جئــــــــتِ لنا مــورَّدةً بيضاء مِنْ زيتــــــــــون عمَّانِ
فتلفتتْ بغـــــــدادُ وانتفضــت خفِراتُها، وأتـــــــــــاكِ جيراني
أعيونكِ الخضراءُ في وطني؟ أفدي لها أهلي وإخــــــــواني!
أنتِ الثّمالة تجتلي أبـــــــــــداً أشـــباح أعرابٍ ورومــــــــانِ
عرباتِهمْ وخـــــــــيولِ قائدهم وجــــــــنودِهم والفاتحِ الجاني
ونبيذ روما لاثمٌ شـــــــــــــفةً يا أختَنا بالأحــــــــــــمر القاني
لكنْ أكــــــــــادُ أرى بحُمرتها لونَ الدّماء بفـــــــــجرِ أوطاني»
ويقول في قصيدة أخرى بعنوان «صديق آخر»:
«كان من الأردن... ألقته معي الدّنيا
في قرية ملعونة تكره أنْ تحيا
كان يحب الجبنة البيضاء والزَّيتون
والزَّعتر النَّفاذ والليمون
واسم الَّتي يهوى
وراية في عتمة الأردن خفَّاقة
أوَّاه لو مرَّ على منزلنا يوماً
لو صافحت كفي كفّاه
لو أومضت في الصَّمت عيناه
لو زارني يمحضني بهجة دنياه:
جبنته البيضاء والزَّيتون
والزَّعتر النَّفاذ والليمون واسم الَّتي يهوى وتهواه».