تتوالى الأنباء المقلقة عن صحَّة النَّائب المستقيل أسامة العجارمة بعد لجوئه إلى الإضراب احتجاجاً على (ورفضاً لـ) الظّلم الَّذي لحق به ويتعرَّض له. وهذا مفهوم. ففي مواجهة نظامٍ لا يقيم وزناً لدستورٍ أو قانونٍ أو حقوقٍ إنسانيَّة، كيف للإنسان الأعزل أن يرفض ما يقع عليه مِن قهرٍ وظلمٍ، ويدافع عن كرامته وشروط إنسانيّته؟
قال أنطون سعادة وهو ذاهب إلى لحظة استشهاده: «الحياة وقفة عزّ فقط».
وقال أيضاً: «إذا كان لابدَّ مِنْ هلاكنا، يجب أن نهلك كما يليق بالأحرار لا كما يليق بالعبيد».
ومع الأسف، يُقابَل هذا كلّه من الأحزاب والقوى السِّياسيّة في الأردن، ومن النّشطاء والشَّخصيَّات الوطنيّة، ومِنْ منظَّمات حقوق الإنسان، بالعموم، بصمتٍ مطبق.. بل صمت معيب في الواقع. الأمر الَّذي يكشف حجم الخراب الَّذي بلغه مجتمعنا – خصوصاً مجتمعنا المسيَّس – كنتيجة لسياسات النِّظام المدمِّرة على كلّ الصُّعد.
الرَّجل الآن يرسف بقيوده ظلماً وجوراً، ويواجه أشدّ المخاطر بسبب إضرابه الَّذي لم يعد له مِنْ ملجأٍ سواه.. فقد جرى الاستفراد به، والانقضاض عليه. وسمحنا جميعاً بذلك، مع الأسف!
بل إنَّ أوساطاً مشتغلة بالثَّقافة وأخرى مشتغلة بالسِّياسة، لم تكتفِ بالصمت، وإنَّما اصطفَّت مع النِّظام ضدّ أسامة العجارمة، وتبنَّت رواية النِّظام، لتتحدَّث عن العشائر والعشائريّة (كما لو أنَّها تتحدَّث عن ناس قادمين مِنْ مجرَّةٍ بعيدة، وليس عن قطاعاتٍ شعبيَّةٍ مسحوقة ومقهورة)، وشرعت في «التَّحليلات» (و«التّحريمات») الَّتي تقفز فوق الواقع الطَّبقيّ الصَّعب للنّاس، وفوق ركام الفساد وممارسات الاستبداد الفظَّة، والفشل الإداريّ المزمن، وتغييب المؤسَّسات، وحرمان الشَّعب من التَّنمية الوطنيّة ومِنْ حقّه في تقرير مصيره وحكم نفسه بنفسه.. الخ، لتستعير مفردات الخطاب الأمنيّ النَّمطيّ الضَّحل للنِّظام، فتتَّهم أسامة العجارمة ومناصريه من الشَّعب الأردنيّ، وتدينهم، بتهمة «الاستقواء على الدَّولة»!
أوّلاً، يبدو أنَّنا بحاجة إلى التَّذكير بالبديهيَّات، مثل أنَّ لجوء النَّاس إلى الاعتصام والتَّظاهر والاحتجاج، وسواها مِنْ أشكال النِّضال المتعارف عليها في العصر الحديث، ليس استقواءً على الدَّولة ولا على سواها، بل هو استعمالٌ لحقٍّ مشروع.
وبالمناسبة، النِّظام ليس الدَّولة، إلا إذا كان هؤلاء القوم يتبنَّون موقف لويس الرَّابع عشر عندما قال «أنا الدَّولة والدَّولة أنا»!
ثانياً، إذا كان أحدٌ قد استقوى على الدَّولة ويستقوي عليها (وعلى الشَّعب خصوصاً)، فهو النِّظام وليس أسامة العجارمة أو سواه من المواطنين والمعارضين الوطنيين.
وإلّا..
فهل أسامة العجارمة هو الَّذي باع مقدّرات الدّولة واستولى على ثرواتها؟
وهل هو الَّذي حمَّل البلاد مديونيَّةً هائلة تثقل كاهلها وتزيد صعوبات معيشة الغالبيّة السَّاحقة من الشَّعب؟
وهل هو الَّذي باع استقلال البلاد وسيادتها، للولايات المتَّحدة، بموجب اِّتِّفاقيَّةٍ ذليلة؟
وهل هو الَّذي تاجر بقوت الشّعب وجوّع النَّاس؟
وهل هو الَّذي حرم البلاد من التَّنمية الوطنيّة وفرض عليها أن تظلّ تمدّ يدها دائماً إلى الخارج لتعيش يوماً بيوم، بينما يزداد ثراء القلّة المستفيدة بالنّظام ويبلغ مستوياتٍ خياليَّة؟
وهل هو الَّذي لبَّس البلاد دوراً وظيفيّاً لا يليق بها ولا يرضاه شعبها؟
وهل هو الَّذي عطَّل كلّ مؤسَّسات الدَّولة وحوَّلها إلى مؤسَّسات صوريّة فاشلة؟
وعلى سيرة العشائر والعشائريّة، هل أسامة العجارمة هو الَّذي يحكم البلاد باسم العشيرة ويستبعد الشّعب عن الاضطلاع بأيّ دور يتوافق مع نصّ الدّستور بأنَّ «الشَّعب مصدر السُّلطات»؟
وهل هو الَّذي يسجن المواطنين الأردنيين على كلمة يقولونها أو يكتبونها، ويكمِّم أفواههم كي لا ينتقدوه؟
إذا كان أسامة العجارمة قد فعل ذلك كلّه، أو حتَّى أيّ شيءٍ منه، فإنَّه يكون حقّاً قد استقوى على الدَّولة، ويستحقّ ما جرى له وأكثر، بل ويستحقّ أن نصطفّ ضدّه ونشمت به أيضاً.
على أيَّة حال..
زَجُّ أسامة العجارمة في السِّجن، وتقديمه للمحاكمة أمام محكمة أمن الدَّولة، لا يدينه؛ بل يُذكِّر بأنَّ هناك مَنْ هم أولى مِنْه بالسِّجن والمحاكمة، ويُذكِّر، خصوصاً، بمَنْ استقووا فعلاً على الدَّولة وارتكبوا ضدّها كلّ تلك الجرائم الَّتي عدَّدناها أعلاه.
ما الَّذي تعتقدون أنَّكم ستحقِّقونه مِنْ سجن أُسامة العجارمة ومحاكمته؟
هل تظنُّون أنَّكم يمكن أن تحوِّلوه مِنْ صاحب رأي وموقف إلى مجرَّد «مجرم» عاديّ؟!
أعتقد أنَّ الأمر سينقلب تماماً.. فها هو الرَّجل يتحوَّل الآن إلى ضحيّة مِنْ ضحايا عسف النِّظام وجوره. وإذا استمرَّ وجوده في السِّجن وصموده، أو إذا فقد حياته – لا سمح الله – بسبب الإضراب عن الطَّعام، فسيتحوَّل إلى رمز وطنيّ ويعود النَّاس إلى الالتفاف حوله.
صاحب الرَّأي والفكرة يناضل ويضحِّي مِنْ أجل فكرته، ويعيش ويموت مِنْ أجل فكرته، وجُلّ همّه هو بقاء فكرته. والتَّضحية أمر طبيعيّ بالنِّسبة له، بل إنَّها كلّما عظمت كلّما منحت الفكرة قوّةً إضافيّة وسحراً يبقيان ويتعاظمان على مرّ الأيّام..
بعد مرور زمنٍ طويلٍ، لا نزال نتذكَّر صايل الشهوان وجديع أبو قاعود وعبد الفتَّاح تولستان وكليب الشريّدة وكايد المفلح العبيدات.. بل إنَّ صور هؤلاء العظماء ومكانتهم وتأثيرهم تزداد تألّقاً على مرّ السّنين. ونحن لا نتذكّرهم فقط، بل لقد تحوّلوا لدينا إلى رموز.. رموز كبيرة وأكثر حضوراً مِنْ أكثر الأحياء حضوراً، وقد اكتسبت سيرهم سحراً وفتنةً وتأسطرت.
قضيَّة أسامة العجارمة هي في كلّ الأحوال قضيّة سياسيّة وقضيَّة حقوق إنسان. هل يوجد أحد يقول خلاف ذلك؟ فأين هم، إذاً، كلّ أولئك الَّذين لا يكفّون عن التَّشدّق بالكلام عن المجتمع المدنيّ؟ وأين أولئك الَّذين يزعمون أنَّهم أنصار للحرّيّة والدِّيمقراطيّة؟ وأين هم العاملون في مجال حقوق الإنسان والمواطن؟ وأين منظَّمات حقوق الإنسان وما إلى ذلك؟
وما هي حجّة الجميع للصَّمت، على هذا النَّحو المخزي، سوى التَّذرّع بالذَّرائع الواهية الَّتي حبكتها ماكينة النِّظام الجهنَّميَّة لتبرير انقضاضه على أسامة العجارمة وعددٍ مِنْ أنصاره.
ببساطة، الرَّجل لم يقبل أن يكون خروفاً، فزفر زفرةً حرَّى قادته إلى الاستقالة مِنْ مجلس النُّوّاب، ثمّ عبَّر بطريقته عن إحساسه بالكرامة في مواجهة العمل الهمجيّ الَّذي استهدفه واستهدف أنصاره، فاعتُبِرَ مجرماً واُقتيد إلى السّجن. فأين إحساسكم أنتم بالكرامة؟ وكيف تعبِّرون عنه؟
إنَّ مَنْ يصمت على هذا الآن، لا يحقّ له أن يعترض غداً.. إذا ما عومل بالطَّريقة نفسها وربَّما بما هو أسوأ منها.
أسامة العجارمة لم يرفع صوته مِنْ أجل ناخبيه مِنْ قبيلة العجارمة وحدهم، بل مِنْ أجل الأردنيين جميعاً. وعندما توجَّه إلى العشائر، إبَّان معركة «سيف القدس»، لم يفعل ذلك ليدعو إلى إحياء القيم العشائريّة والقبليَّة، وإنَّما ليدعو إلى الاحتشاد والتَّحرّك لدعم الشَّعب الفلسطينيّ الشَّقيق. وهذه – رغم كلّ التَّزوير الَّذي جرى وحَرْفِ الأنظار المتعمَّد عن الحقائق – واقعة موثَّقة لا يوجد فيها أيّ لبس.
ولهذا بالذَّات استُهدِفَ؛ أيّ لأنَّه تحرّك على نطاقٍ شعبيٍّ واسع وفاعل (وشديد الخطورة) بالتَّناقض مع الدَّور الوظيفيّ للنِّظام.. هذا الدَّور الَّذي تأسَّس على هامش وعد بلفور، وترسَّخ بعد اتِّفاقيَّات وادي عربة.. ثمَّ الاتِّفاقيَّة الأميركيَّة الأردنيّة المذلَّة الَّتي عِقِدَتْ مؤخَّراً.
والآن، ونحن نتابع الأخبار المقلِقة عن صحَّة أسامة العجارمة، تضغط على لساني عبارة إميل زولا الشَّهيرة: إنَّني أتَّهم..
ولكنَّنا لا نكتفي بالاتِّهام فقط، بل نقول أيضاً: إنَّنا نحمِّل المسؤوليّة كاملةً، للنِّظام ولكلّ الصَّامتين والمتواطئين، عن تدهور صحّة أسامة العجارمة وعن كلّ ما قد يحدث له.
ما جرى لأسامة العجارمة، ومعاملته بهذه الطَّريقة اللئيمة الحاقدة، مدانان؛ وهذا الأسلوب القروسطيّ في السِّياسة والحكم مرفوض؛ والصَّمت على هذا التَّعسّف، والتواطؤ القطيعيّ معه، مرذولان.
ونقول، بملء الفمّ وبأعلى صوت:
الحرّيّة لأسامة العجارمة،
الحُرّيّة للشّعب الأردنيّ،
السُّؤدد والفلاح للأردنّ،
والخزي والعار للفاسدين والمستبدّين والمتواطئين معهم والمساندين لهم.