يبدو جليّاً أنَّ الصِّراع الاستراتيجيّ الكبير، الدَّائر حاليّاً بين دول الـ «ناتو» وبين روسيا، في السَّاحة الأوكرانيَّة، يشتمل على منازلة ثقافيَّة هائلة، ذات أثر سياسيّ. وهي منازلة مثقلة بالأبعاد الاقتصاديَّة، ومحاطة بالحيثيَّات العسكريَّة.
ويمكن لَمْسُ هذا مِنْ طوفان التَّصريحات المتوالية الَّتي يدلي بها الطَّرفان. واللغة المستخدمة في هذا الصِّراع، الَّذي يشهد تنافساً غير مسبوق على توظيف مفاهيم القانون الدَّوليّ، مقرونة بتوصيفات أخلاقيَّة، وإشارات ثقافيَّة مباشرة.
في هذا السِّياق، نشهد حديثاً متكرِّراً من الطَّرف الغربيّ عن «سيادة الدُّول»، في حين يتكلَّم الجانب الرُّوسيّ عن «التَّاريخ الأخويّ» و«الوحدة التَّاريخيَّة الثَّقافيَّة والرُّوحيَّة» بين الشَّعبين الرُّوسيّ والأوكرانيّ.
إنَّه اقتصاد الأزمات. أو هو بالأحرى، الاقتصاد الثَّقافيّ في أقسى وأشدّ أنواعه ضراوة.
ولا يقتصر ذلك على محاولة استخدام (واستثمار) مفاهيم القانون الدَّوليّ، و«التَّاريخ الأخويّ» و«الوحدة التَّاريخيَّة الثَّقافيَّة والرُّوحيَّة»، بل يجري أيضاً استخدام مفاهيم مباشرة، أكثر حدَّة في معناها وأكثر تداولاً على المستوى الثَّقافيّ.
ومثال على ذلك، لجأ نائب أمين مجلس الأمن القوميّ الرُّوسيّ، ديمتري مدفيديف، إلى الاستشهاد بالكاتب الرُّوسيّ ميخائيل بولغاكوف، صاحب رواية «المعلِّم ومارغريتا» الشَّهيرة، في كلام له يقول فيه: «إنَّهم يرفضوننا الآن صاخبين، لكنَّهم لن يلبثوا أن يأتوننا ويضعون أوراقهم على الطَّاولة صاغرين».
هنا، كان مقصوداً وضع اسم الكاتب الرُّوسيّ، ميخائيل بولغاكوف، الَّذي وُلِد ونشأ في كييف، في سياق خطاب الأزمة؛ فاسمه نفسه يعني الكثير في الثَّقافة الأوكرانيَّة ولدى دول الـ«ناتو»؛ فهو (أولاً) كاتب ارتبطت حياته بتلك الفترة القصيرة الَّتي استقلَّت فيها أوكرانيا عن روسيا وحاولت أن تنحو منحىً غربيّاً قبل مائة عام بالضَّبط (العام 1922). وهكذا، فإنَّ استذكار بولغاكوف، والاستشهاد به في العام 2022، ليس صدفة؛ بل هو نوعٌ من الرَّسائل السِّياسيَّة الضِّمنيَّة، ذات الطَّبيعة الثَّقافيَّة. و(ثانياً) بولغاكوف هو صاحب العنوان الشَّهير، الذَّائع، الَّذي نصّه: «الشَّيطان يزور موسكو».
وفي هذا، أيضاً، إشارة كبيرة يرسلها السِّياسيّون في الكرملين إلى الوطنيَّة الرُّوسيَّة، التَّي ارتفع منسوبها منذ سنوات؛ فالوطنيَّة الرُّوسيَّة ترى في الـ«ناتو» والغرب «شيطاناً» جامحاً يسعى إلى تدنيس موسكو. وموسكو في الثَّقافة المسيحيَّة الأرثوذكسيَّة الرُّوسيَّة هي «روما الثَّالثة»! (بالمناسبة، الأرثوذكسيَّة الرُّوسيَّة منشأها عربيّ، وتحديداً دمشقيّ)
الإشارة الثَّقافيَّة الثَّانية، المتعمَّدة، جاءت على لسان وزير الخارجيَّة الرُّوسيّ، سيرغي لافروف، الَّذي علَّق على الدّعوات الغربيَّة والأوكرانيَّة إلى التَّراجع عن الاعتراف الرُّوسيّ بـ«جمهوريتي دانيتسك ولوغانسك» مقابل العودة إلى المفاوضات، بالقول: «موسكو لا تصدِّق الدُّموع».
و«موسكو لا تصدِّق الدُّموع» هو اسم فيلم سوفيتي أيقونيّ، يكاد يكون من أكثر الأفلام شهرةً في العالم. ولا يقصد لافروف، باستخدام اسم هذا الفيلم، الإحالة إلى قصَّته.. بل إنَّ اسم الفيلم، بمعانيه المباشرة، هو المقصود.. لتوظيفه سياسيَّاً.
وهاته الإحالات الثَّقافيَّة، مفهومةٌ تماماً في لغات الـ«ناتو» الغربيَّة، وكذلك للنَّاطقين بالرُّوسيَّة، داخل وخارج روسيا، لا سيّما الأوكرانيين منهم.
في الصّراعات الاستراتيجيَّة ثمَّة ربحٌ وخسارة.. ليس بالمعنيين العسكريّ والسياسيّ فقط، بل كذلك بالقيم الاقتصاديَّة والثَّقافيَّة. وإذا كانت الأرباح والخسائر، على المستوى الاقتصاديّ، قابلةً للحسابات المسبقة، فإنَّها، على المستوى الثَّقافيّ، بأثرها الواقعيّ على السِّياسة والاقتصاد، تبقى عصيَّةً على كلّ تصوّرٍ أو حساب.
ذلك أنَّ الصّراعات الاستراتيجيَّة تتجاوز، دائماً، في قيمتها الواقعيَّة، الخسائرَ الماديَّة المباشرة في ميدان النِّزال، لتذهب إلى تعديل ميزان السِّيادة الثَّقافيَّة في العالم. وميزان السِّيادة الثَّقافيَّة في العالم هو نفسه ما نشير إليه بوصفه النّموذج الحضاريّ، والنُّفوذ السِّياسيّ، والهيمنة الاقتصاديَّة، والسَّيطرة العسكريَّة.
وبناءً عليه، فإنَّ ما نشهده اليوم هو صراعٌ استراتيجيّ، يحتاج من الأطراف المتورِّطة فيه مباشرة، والأطراف الأخرى المتأثرِّة به، قراءاتٍ معمَّقةً للتَّاريخ، وتقييماتٍ واقعيةً لحصانة المنظومة الاقتصاديَّة العالميَّة، وحدود القوّة العسكريَّة، ومعنى الرَّأسمال الثَّقافيّ، أكثر من الغرق في التَّقييمات السِّياسيَّة التَّقليديَّة.