|
رونالد ريغان في استقبال مَنْ سمَّاهم مجاهدي الحُرِّيَّة |
▣ قدَّمَ حزب «هدى بار» الكُردي (التَّركيّ) اليمينيّ، في شهر تمّوز من العام الحاليّ (2024)، اقتراحاً بقانون، إلى البرلمان التُّركيّ، يسمح بمعاقبة الأتراك الَّذين يشاركون في الحرب على غزَّة إلى جانب الجيش الصّهيونيّ؛ حيث ينصّ مشروع القانون، هذا، على الملاحقة القضائيَّة لهؤلاء، وإدانتهم بالجرائم الَّتي ارتكبوها، ومصادرة أُصولهم، وسحَبُ الجنسيَّة التُّركيَّة منهم، والحكَم عليهم بالسِّجن مدى الحياة.
وأتوقَّف، هنا، عند حقيقة أنَّ مَنْ تقدَّم بهذا الاقتراح بقانون هو حزب يميني كُرديّ؛ وليس حزب أردوغان، الَّذي يظلّ يُطلق كلاماً كثيراً عن وقوفه إلى جانب غزَّة؛ لكنَّه في الواقع لا يفعل شيئاً حقيقيَّاً لها؛ وبالنَّتيجة، ليس بإمكانه أنْ يوضِّح أين هو تموضعه الفعليّ إلى جانبها؟ وكيف؟
وكانت أنباء متواترة قد أوردت أنَّ حوالي عشرة آلاف جُندي يحملون الجنسيَّة التُركيَّة قد تطوَّعوا للقتال، إلى جانب الجيش الصّهيونيّ في غزَّة. ومِنْ هؤلاء، بحسب تقرير بثَّته فضائيَّة الجزيرة في تاريخ 11. 7. 2024، الجنرال المسؤول عن إدارة وتشغيل نظام القُبَّة الحديديَّة في الكيان الصّهيونيّ.
وبحسب التَّقرير نفسِه، أيضاً، قُتِلَ، مِنْ هؤلاء المقاتلين الأتراك إلى جانب الجيش الصّهيونيّ، أكثر مِنْ 65 جُنديَّاً، وجُرِحَ منهم أكثرُ مِنْ 110 آخرين.
وتُبرَّر مشاركة هؤلاء في العدوان على غزَّة بأنَّهم يهود!
حسناً! كم هو عدد الأتراك «المسلمين»، في المقابل، وخصوصاً مِنْ حزب أردوغان، الَّذين تطوَّعوا للقتال إلى جانب المقاومة الفلسطينيَّة في غزَّة؟
أو حتَّى ما هي الأسلحة الَّتي وفَّرتها تركيا لغزَّة؟
ثمَّ، حتَّى إذا كان هؤلاء الَّذين تطوَّعوا للقتال إلى جانب العدوّ الصّهيونيّ يهوداً، فهم في النِّهاية مواطنون أتراك؛ فلماذا استمرّ السُّكوت على جريمتهم، تلك، إلى أنْ قام حزب كُرديّ بإثارة موضوعهم في البرلمان التُّركيّ؟
الحقيقة أنَّه لا أحد في تركيا، بما في ذلك أردوغان وحزبه، يزعم وجود حتًّى لو جنديّ تركيّ واحد (أو متطوِّع تركيَ واحد) إلى جانب المقاومين في غزَّة؛ ولا أحد يزعم أنَّ تركيا زوَّدتْ المقاومين في غزَّة حتَّى لو بقطعة سلاح فرديّ واحدة.
وهذا بينما إمداد المنتجات التُّركيَّة إلى الكيان الصّهيونيّ لم ينقطع؛ وانبوب النَّفط الأذربيجانيّ، الَّذي يمرّ عبر تركيا، ليوصل إلى الكيان الصّهيونيّ حاجته من النَّفط، لم يُغلق.
في المقابل، وكما هو واضح من الهجوم الأخير الغادر على سوريا، الَّذي شُنَّ ما إنْ أُعلِنَ وقف إطلاق النَّار في لبنان، فإنَّ إمداد المسلَّحين التَّكفيريين في شمال سوريا بالسِّلاح.. بل بأكثر أنواعه تطوُّراً، وبالعديد المتعدِّد الجنسيَّات، والعتاد بمختلف أنواعه، لم ينقطع مطلقاً؛ لا مِنْ تركيا ولا عبرها.
وطوال الحرب الهمجيَّة على لبنان وغزَّة، لم تُطلق رصاصة واحدة مِنْ هذا السِّلاح (ولا مِنْ هؤلاء المسلَّحين) على العدوّ الصّهيونيّ؛ مع أنَّ قوَّاته المعتدية على بُعد مرمى حجر منهم؛ ومع أنَّهم ليسوا أبعد عنه مِنْ حزب الله؛ ومع أنَّنا رأينا الصَّواريخ تأتي، عبر مسافاتٍ طويلة، من المقاومة العراقيَّة ومن الحوثيين، لتضرب هذا العدوّ، مراراً وتكراراً..
لقد كانوا يستعدّون ليوم هجومهم الغادر على سوريا؛ بينما هم يكتفون بالتَّفرُّج، على الأقلّ، على الصَّهاينة وهم يهاجمون لبنان وغزَّة والضّفّة الغربيَّة واليمن والعراق..
يمكن لأيِّ واحد أنْ يقول ما يريد عن النِّظام السُّوريّ؛ لكنَّه لا يستطيع أنْ يقول إنَّ هذا النِّظام ليس مستهدفاً من حلف الأطلسيّ والعدوّ الصّهيونيّ، إلّا إذا كان يعتقد أنَّه يستطيع أنْ يستخفّ بعقول النَّاس بسهولة.
فما هو، إذاً، سبب تأييد البعض، للمسلَّحين الوهَّابيين متعدِّدي الجنسيَّات، ضدَّ النِّظام السُّوريّ؟
يتذرَّع بعض هؤلاء، في تأييده لهم، بأنَّه مناصر لحُرِّيَّة الشَّعب السُّوريّ!
وهذا عذرٌ أقبحُ مِنْ ذنب؛ فهل المسلَّحون التَّكفيريُّون هم مَنْ سيجلب الحُرِّيَّة للشَّعب السُّوريّ؟!
أم أنَّهم سيكونون، في الحقيقة، أشدَّ مضاضةً على الحرِّيَّة (بما فيها الحُرِّيَّات الشَّخصيَّة) من النِّظام السُّوريّ.. أو حتَّى مِنْ أيّ نظام آخر قائم في المنطقة؛ وأنَّهم، أصلاً، لا يؤمنون بأيّ نوع مِنْ أنواع الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة؟
ويتذرَّع البعض، في تأييده لهؤلاء المسلَّحين، بذريعة أنَّهم ثُوَّار!
وهذا العذر كسابِقه؛ فما هو مشروع التَّغيير الثَّوريّ الَّذي يتقدَّم به المسلَّحون التَّكفيريّون الوهَّابيّون هؤلاء؟!
هذي حقائق بديهيَّة ومعروفة..
وبناء عليه، فلا يوجد سبب، لهذا الموقف المتحيِّز ضدَّ النِّظام السُّوريّ، سوى أنَّه استجابة لحملة العداء الأميركيَّة والأطلسيَّة (والصّهيونيَّة) ضدّ سوريا.
وفي الحقيقة، يوجد جيش احتياطيّ ضخم، جاهز غبِّ الطَّلب، للأميركيين والأطلسيين، يوجّهونه لقتال مَنْ يشاءون مِنْ أعدائهم ومتى شاءوا؛ وذلك كُلُّه باسم الإسلام والمسلمين؛ مع أنَّ المستهدف به، في الكثير من الأحيان، هم المسلمون..
لقد فعلوا ذلك، بإشراف السِّي. آي. أيه وتدريبها، ضدّ الدَّولة الأفغانيَّة، الَّتي كانت ناهضة في سبعينيَّات القرن الماضي؛ وخصوصاً، ضدَّ حليفها السُّوفييتي، إلى أن انهار الاتِّحاد السُّوفييتي، وتحوَّلت أفغانستان، على يد «مجاهدي الحُرِّيَّة» – كما سمَّاهم رونالد ريغان – إلى دولة فاشلة.. منذ ذلك اليوم وحتَّى هذا اليوم.. وتسيَّدتْ الولايات المتَّحدة، منفردةً، على العالم؛ فأعادتنا إلى عصر البوارج الحربيَّة والتَّوسُّع الاستعماريّ والإملاءات الوقحة..
وفعلوا ذلك في الصُّومال، فأصبحتْ «الصّوملة» نموذجاً للدَّولة الفاشلة..
وفعلوا ذلك في يوغسلافيا، جنباً إلى جنب مع حلف الأطلسي، إلى أنْ حوَّلوا تلك الدَّولة الأوروبيَّة الصَّديقة، الَّتي كانت دولة محترمة، إلى أشلاء..
وتجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّ البوسنة، الَّتي قاتلوا يوغسلافيا مِنْ أجلها، تصوِّتُ الآن، بانتظام، في الأمم المتَّحدة، إلى جانب الكيان الصّهيونيّ، وضدّ القضايا العربيَّة، بخلاف ما كانت تفعل يوغسلافيا السَّابقة..
وفعلوا ذلك في ليبيا، بمعيَّة حلف الأطلسيّ..
وليبيا، الآن وإلى أمدٍ غير معلوم، دولة فاشلة، ونفطها منهوب مِنْ دول الغرب الأطلسيّ، وناسها في ضنك وضياع..
وفعلوا ذلك في سوريا..
وبالنَّتيجة، بعدما كانت سوريا الدَّولة العربيَّة الوحيدة غير المدينة، وغير الخاضعة للبنك الدَّوليّ وصندوق النَّقد الدَّوليّ، والمعتمِدة على ذاتها اقتصاديَّاً، والمستقلَّة سياسيَّاً، أصبحت الآن دولةً مدمَّرة وفي عوز شديد وتعتمد على غيرها.
وكانوا، قبل سنوات، قد تهيَّأوا للحرب على الصِّين، بالتَّزامن مع العداء الأميركيّ المعلن للصِّين الَّتي أصبحت منافساً مهدِّداً للولايات المتَّحدة؛ لكنَّ مساعيهم أُحبِطتْ في مهدها، بفطنة الدَّولة الصِّينيَّة وعِظَمَ قوَّتها وحزمها..
لم يوجد في العالم كُلِّه ولا يوجد، ولا حتَّى في جمهوريَّات الموز السَّابقة، مثل هذا الجيش الاحتياطيّ للولايات المتَّحدة وحلف الأطلسيّ، الجاهز غبّ الطَّلب، باسم الإسلام والمسلمين، والَّذي وفَّره لهما «الإخوان المسلمون» وتفريخاتهم التَّكفيريَّة..
أعضاء هذا الجيش الاحتياطيّ وأنصاره، ينكرون هذه الحقيقة، بالطَّبع؛ لكن، لا يمكن لك أنْ تقف، مراراً وتكراراً، في خندق بعينه، وضدَّ خندق آخر بعينه، وفي توقيتاتٍ معيَّنة، ثمَّ تزعم بأنَّ هذا كُلُّه مجرَّد مصادفات، أو أنَّه نوعٌ مِنْ «وَقْعُ الحافِرِ على الحافِرِ».. كما هي المقولة التُّراثيَّة الشَّهيرة!
خطوط الصّراع واضحة ومحدَّدة..
خطّ يقف فيه العدوّ الصّهيونيّ ورُعاته في حلف الأطلسيّ (وتركيا هي القوَّة الأساسيَّة لحلف الأطلسيّ في المنطقة)..
وخطَّ مقابل، يقف فيه خصوم وأعداء حلف الأطلسيّ وتوابعه (ومِنْ ضمنهم، العدوّ الصّهيونيّ)..
فالَّذي يُقاتل، الآن، في غزَّة وفي المنطقة، هو حلف الأطلسيّ.. يُقاتل بقوَّات العدوّ الصّهيونيّ، وبقوَّاته هو مباشرةً..
ولا يمكن لأحدٍ أنْ يُمشِّي، إلى ما لا نهاية، كذبةَ أنَّه يمكن أنْ يكون مع غزَّة وضدّ العدوّ الصّهيونيّ؛ ثمّ لا يتورَّع، بعد ذلك، عن الوقوف في الخندق الآخر المقابل.. خندق حلف الأطلسيّ (والعدوّ الصّهيونيّ، بالنَّتيجة)، ضدَّ كائنٍ مَنْ كان.
مَنْ يفعل ذلك هو إمَّا مغفَّل، أو أنَّه متواطئ ويعتقد أنَّ النَّاس سُذَّج وبإمكانه خداعهم بسهولة.
وعلى العكس مِنْ ذلك تماماً، فإنَّ مَنْ يُعادي العدوّ الصّهيونيّ ورعاته الأطلسيين، سيجد نفسه، موضوعيَّاً على الأقلّ، في الخندق المقابل.. خندق خصوم وأعداء هؤلاء؛ وإذا كان جادَّاً وصادقاً في موقفه؛ فليس أمامه إلّا أنْ يلتزم بشروط وجوده الموضوعيّ في هذا الخندق..
وبرأيي، فإنَّ هذا ما فعلته «حماس»، وخصوصاً كتائب عزِّ الدِّين القسَّام، في النِّهاية؛ ولذلك، فهي فصيل مقاومة، وتَعدُّ نفسها جزءاً مِنْ محور المقاومة، وليس من المحور الآخر..